يرتدون ثياباً عصرية، ويستخدمون أحدث السيارات والهواتف والساعات والنظارات. بعضهم يقحم كلمات إنكليزية في حديثه، والبعض الآخر يتعمد الإشارة لدراسته في جامعات غربية بمناسبة أو بدون مناسبة. مظهرهم يوحي بالحداثة والتحضر، لكن المحتوى الذي يقدمونه يتطابق مع ما يروجه التيار السلفي المتشدد على مدار عقود مضت، وهو ما ساهم في إحداث الكثير من الفتن والمشكلات الاجتماعية والأمنية في مصر، وفق ما يؤكده متخصصون في علوم النفس والاجتماع وحركات الإسلام السياسي.
ومن بين التأثيرات السلبية والأمراض الاجتماعية التي خلفها الخطاب الديني المتشدد في مصر، انتشار الفتن الطائفية بين المصريين مسلميهم ومسيحييهم، واعتياد الإقصاء أو التكفير للمختلف حتى وإن كان مسلماً يتبنى آراء مغايرة، وكذلك تفشي النفاق الاجتماعي، وازدياد معدلات التحرش الجنسي بالنساء، هذا بخلاف الإرهاب المسلح الذي وجد بيئة خصبة لسنوات طويلة بين الشباب الذي بات مقتنعاً بأن ثمة فتوى أحادية صحيحة لكل أمر، وما دونها “مخالف لتعاليم الدين” أو “مؤامرة لهدم الإسلام”.
هذا الخطاب الذي بدأت الدولة والمؤسسات الدينية في مصر العمل على مواجهته، بدأ يعود مجدداً عبر مواقع التواصل الاجتماعي، مبدلاً لون جلده ومحافظاً على الأفكار المتشددة التي ينفثها في الأنفس والعقول، ما يطرح تساؤلاً مهماً: هل يجب وضع ضوابط للخطاب الديني في مصر؟ أم أن هذا قد يضر أكثر مما يفيد؟ خصوصاً أن تلك الضوابط طالما استخدمت لإسكات الأصوات التنويرية التي حاولت تقديم رؤية أكثر انفتاحاً ومواكبة للعصر الحديث ومتغيراته.
“المسيح مسلم”
في الأيام القليلة الماضية أثير الكثير من الجدل بشأن واحدة من هؤلاء الدعاة، بعدما تداول مدونون وصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي تصريحات لداعية تقول فيها إن السيد المسيح مسلم، وإنه لا يوجد دين اسمه المسيحية أو اليهودية ولكن هناك فقط الإسلام، معتبرة أن الإنجيل والتوراة هي مجرد كتب سماوية نزلت على رسل جميعهم مسلمون. وما جعل الجدل بشأن هذه الداعية يشتعل، هو أنها تبث أفكارها في عقول الأطفال، وتستهدف أبناء الطبقات الثرية وطلاب المدارس الدولية.
وبجانب هذا المقطع المثير للجدل، فإن فدوى مواهب التي تعمل أيضاً مصممة وبائعة عبايات إسلامية ومخرجة، لها لقاءات عدة أثارت الانتقاد، ومنها حديثها عن ضرب الأطفال بعد سن السابعة إذا لم يصَلّوا.
مقطع آخر لها تعرض للكثير من الانتقادات، قبل أسابيع، تتحدث فيه عن بر الوالدين، وتهدد خلاله الأطفال بأسلوب حاد بدخول النار إن قالوا لا لآبائهم، وأن كلمة “لا” تعتبر “عقوقاً” للوالدين، وضيقت الداعية العلاقة بين الأطفال وآبائهم من الحب، والود، والتفاهم، والاحترام، لتحصرها في “البر” و”العقوق” وربطتها بمصير الطفل في الآخرة إما إلى “الجنة” أو “النار”.
“إلا الأطفال”
مع أن غالبية من تحدث إليهم “النهار العربي” يرون أنه يجب حظر أصحاب الآراء الدينية المتشددة، إلا أن مؤسسة شركة “البيروني” المتخصصة في مجال تبسيط العلوم للأطفال إيمان فكري، ترى أن المجال العام يجب أن يكون مفتوحاً ويتسع لجميع الآراء، حتي المتشدد منها، طالما لم تحرض على العنف، لأن هذا الانفتاح مفيد للمجتمع، ويساعد على تصحيح مساره الفكري. لكن السيدة لها موقف مغاير تماماً في ما يخص الأطفال.
وتقول مؤسسة “البيروني”: “يجب عدم تعريض الأطفال للفكر المتشدد والمنغلق الذي يروج له البعض. الدولة تسير في اتجاه جيد جداً. في السنوات الأخيرة، بتنا نرى وزارة التربية والتعليم المصرية تدرس للأطفال في الصف الثالث الابتدائي الفرق بين الحقيقة والرأي، هذا أمر مهم للغاية لتكوين منهج التفكير لدى الطفل في سن مبكرة”.
وتضيف المتخصصة في تبسيط العلوم: “عقل الأطفال يشبه الورقة البيضاء، أو كما يقولون “التعليم في الصغر كالنحت على الحجر”. يجب أن نرسم في عقولهم أساسيات التفكير العلمي، ومناهج البحث، وكيفية الوصول إلى مفاتيح المعرفة. من الخطر أن نعلمهم فكراً جامداً لا يسمح بتعدد الآراء، وقبول الاختلاف في وجهات النظر، لأن المجتمع دفع ثمن هذا من قبل، ولا شك في أنه سوف يدفعه ثمناً باهظاً مجدداً لو سمح بتكرار الخطأ”.
تأثير نفسي خطير
وعن استغلال هؤلاء الدعاة لمظهرهم العصري لبث أفكار متشددة داخل المجتمع، يقول استشاري الطب النفسي الدكتور جمال فرويز لـ”النهار العربي”: “العمليات النفسية التي تقوم بها تيارات الإسلام السياسي لا تأتي بصورة مباشرة أبداً (…). المدخل الحالي لهذا الجيل، هو أن يتحدث إليه داعية شاب، يرتدي زياً عصرياً مثلهم، ويقحم بعض الكلمات الإنكليزية في حديثه”، متذكراً أنه “في بداية الألفينات، ظهر داعية شاب يرتدي زياً عصرياً، واستقطب الكثير من الشباب، وتركته الدولة لوقت طويل، ثم تنبهت إلى خطورة دوره، فمنعته. نحن دائماً نتنبه متأخرين ونتراخى حتى تقع الكارثة”.
ويرى الاستشاري النفسي أنه “يجب ألا يتحدث في الدين أحد غير خريجي الأزهر. أنا أنزعج حين أرى شخصاً غير متخصص في علم النفس يتحدث في الطب النفسي، والإعلامي يغضب حين يرى شخصاً حاصلاً على دبلوم فني (مؤهل متوسط) يقدم نفسه كإعلامي، وإذا تحدث شخص في الهندسة وهو ليس مهندساً الناس تنتقده، فلماذا نترك أي شخص يتحدث في الدين؟”.
احتلال العقل الجمعي
من جانبه يقول الباحث في الفكر الإسلامي والمتخصص في التراث وشؤون الأزهر محمد أبو العيون لـ”النهار العربي” إن “الدعاة الجدد أو “المودرن” – كما نطلق عليهم – هم ظاهرة انتشرت داخل مصر في أواخر عقد التسعينات من القرن المنصرم، وكانوا يعتمدون على الظهور بالملابس “الكاجوال”، ويتحدثون بلغة مختلفة، على عكس ما كان يعتاده الناس من رؤية وسماع المشايخ التقليديين. وقد كان ظهورهم وانتشارهم في مصر مقصوداً، وهدفه استكمال مخطط تغيير الهوية الثقافية المصرية، واحتلال العقل الجمعي المصري، و”سلفنة” المجتمع و”أخونته””.
ويشير الباحث إلى أن “جميع “الدعاة المودرن” ينتمون إلى جماعة الإخوان المسلمين والتيار السلفي، إما فكراً أو تنظيماً، وقد تم تجهيزهم بعناية شديدة للظهور بهذا المظهر والتحدث بهذه اللغة من أجل استكمال مخطط اختراق المجتمع المصري مع التركيز بشكل خاص على اختراق الطبقة العُليا، واستقطاب فئة الشباب”.
ويضيف أبو العيون: “تجهيز هؤلاء الدعاة – كبديل للدعاة الذين يرتدون الجلباب والزي المعتاد – لاختراق المجتمع المصري، كان قراراً اتخذته قيادات جماعة الإخوان والتيار السلفي بعد موجة العنف التي اجتاحوا بها محافظات مصر في مطلع تسعينات القرن المنصرم، واغتالوا خلالها العشرات من المسؤولين والكُتاب والمفكرين والمواطنين الأبرياء، وهي الموجة التي جعلت المصريين يعزفون عن سماعهم ويرفضون تصديقهم؛ فكان الدفع بـ”الدعاة المودرن” بمثابة خطة الخداع، والبديل لاستكمال مخطط اختراق المجتمع والسيطرة عليه”.
آراء دينية مغلوطة
يرى الباحث أنه “خلال ما يزيد عن عقد من الزمان، نجح “الدعاة المودرن” في بث المفاهيم المتطرفة والآراء الدينية المغلوطة داخل عقول مئات الشباب، ولهؤلاء الدعاة الكثير من مقاطع الفيديو التي يتباهون فيها باعتناقهم فكر مؤسس جماعة الإخوان حسن البنا، ومنظر الجماعة الأكثر تطرفاً سيد قطب، إضافة إلى ترديدهم أحكام التكفير نقلاً عن كبار رموز الوهابية، وقد ظهر هذا الانتماء بشكل واضح عقب أحداث 25 كانون الثاني (يناير) 2011″.
ويقول أبو العيون: “بعد نجاح ثورة 30 حزيران (يونيو) 2013، غيّر “الدعاة المودرن” جلدهم، وتبرأوا من كل قولٍ أو فعلٍ يقربهم من التيار السلفي وجماعة الإخوان المسلمين – بعد تصنيفها كجماعة إرهابية من الحكومة المصرية – وتالياً تغير المخطط، وبات الدور الذي يلعبونه مختلفاً عما سبق، ويعتمد بشكل رئيسي على زعزعة ثقة المجتمع المصري في المؤسسة الدينية الرسمية في مصر والمتمثلة في الأزهر الشريف، ودار الإفتاء المصرية، ومهاجمة علماء وشيوخ الصوفية وتشويه صورتهم”.
ويلفت الباحث إلى أن هؤلاء الدعاة “أصبحوا يعتمدون، في السنوات الأخيرة، على التصريح بآراء دينية تثير الجدل، بهدف تحقيق أعلى نسب مشاهدة وأوسع انتشاراً على منصات مواقع التواصل الاجتماعي. والأمر هنا ليس له علاقة بالدين، بل هو قائم في الأساس على التجارة بالدين، وتحقيق مكاسب شخصية وأرباح مادية دون النظر إلى المحتوى المُقدم، وهذا هو ديدن هؤلاء منذ الوهلة الأولى لظهورهم”.