بعد التباين الأفقي هل يفرض الانقسام العمودي التغيير في العراق؟

1

المواطنون يحصدون تناقضات دستور 2005 وتهديد انفصال الأقاليم يلوح في الأفق

صباح ناهي باحث وكاتب عراقي

الأربعاء 10 أبريل 2024 13:53

السوداني خلال جولة له عشية عيد الفطر على العاصمة بغداد (صفحته على فيسبوك)

ملخص
يتلمس مراقبون واقعاً فيه كل عناصر الأزمة المركبة في العراق من تناقضات متحكمة في المجتمع السياسي، تبدأ من دستور عام 2005 الذي صيغ سريعاً بوجود الاحتلال المباشر للبلاد، وما أنتجه من مجتمع منقسم طائفياً وقومياً.

عندما سُئل آينشتاين عن سر اهتمامه بالمستقبل أجاب ببساطة، “لأننا سنعيش بقية عمرنا هناك”…، والتوقعات في العلوم السياسية لم تأتِ من فراغ بل من بناء تلك التوقعات على تحليل معطيات اقتصادية وسياسية واجتماعية وشبكات العلاقات التي تتحكم بالدولة مع محيطها الإقليمي والدولي، بخاصة مع المؤثرين المتحكمين بملفات ومفاتيح العمل في الدولة المعنية، ومن ثم الخروج بمحصلات تلك الخلطة من العوامل المؤثرة، ترافقه قدرة على الاستشراف العلمي المنظم الذي يقرن دراسة الماضي والحاضر ليتوقع المستقبل.

ولا يسمح في العلوم السلوكية اعتماد التنبؤ بالمستقبل المرتبط بعلم الغيب، وهو مفهوم ديني لا تجيزه وسائل وأدوات البحث العلمي التي تعتمد على المحسوسات، بل من الأجدر التوصل إلى البدائل المتوقعة التي تقطع مع السائد أو تبقيه، أو تقدم بدائل عنه تبدو أقرب للترجيح.

تناقضات العملية السياسية

لو أسقطنا كل ما تقدم على الحال العراقية، فإننا نتلمس واقعاً فيه كل عناصر الأزمة المركبة من تناقضات متحكمة في المجتمع السياسي، تبدأ من دستور عام 2005 الذي صيغ سريعاً بوجود الاحتلال المباشر للبلاد وما أنتجه من مجتمع منقسم طائفياً وقومياً بدعوى الأقاليم الذي يجيز لثلاث محافظات إنشاء إقليم مفصّل على القياس الكردي، وفق مقررات المعارضة التي سبقت سقوط نظام صدام حسين في 2003، لكنه رفض ذلك في محافظات أخرى وهذه مخالفة دستورية صريحة.

ونجد محافظات متنازعاً عليها وفق المادة (140) من الدستور مثل كركوك ظلت مُرجأة من دون حل ومن دون تعديلات قررها الدستور ولفترة غير كافية حُددت بستة أشهر، إضافة إلى قضية استثمار النفط كمورد اتحادي تحت سيطرة العاصمة بغداد، بينما لم يلتزم الإقليم الكردي ذلك وسمح بتصدير النفط عبر تركيا وإيران من منفذ السليمانية.

ثم برزت قضية المحكمة الاتحادية وهي إحدى الرئاسات الأربع في البلاد إضافة إلى رئاسة الجمهورية والوزراء والبرلمان، يتهمها الكرد علناً بأنها موظفة سياسياً للفريق الشيعي، وانسحب أعضاؤها الأكراد أخيراً في محاولة لنزع شرعيتها، لكنهم لم ينجحوا في ذلك فهي سلطة رئاسية مقرة بالدستور، فضلاً عن الفساد المستشري في البلاد بصورة مريعة وانتفاع الطبقة السياسية منه واتهام عموم المجتمع لتلك الطبقة بالفساد، وجلها مرتبطة بالسياسيين وقوى اللادولة المتمثلة في الميليشيات، وتبديد الثروة التي هي نتاج اقتصاد ريعي يعتمد على إيرادات النفط، من عائدات تصدير 4 ملايين برميل يومياً، يصل مردودها إلى أكثر من مئة مليار دولار.

لكن البلد في حال فقر مدقع وتراجع في الخدمات وانهيار في القطاع الصناعي والصحي والتعليمي مع تدنٍّ شديد في الارتقاء بمستوى تلك القطاعات الحيوية، وظواهر تؤجج الغضب الشعبي جراء تفشي المخدرات في المجتمع والبطالة، وثراء الطبقات المرتبطة بالسلطة مقابل الفقر للأسر جراء إغلاق المعامل والورش منذ عام 2003 والتي يزيد عددها على الـ30 ألف معمل ومصنع وورشة، في محاولة لتحويل العراق (المنتج سابقاً) إلى مستهلك مستورد من خارج الحدود حتى لأبسط منتجاته الزراعية وغيرها.
وتُبرز ظاهرة تهميش المكونات الأخرى غير المرتبطة بالمشروع الطائفي شكوى دائمة، لا سيما في المدن ذات الغالبية السنية مثل الموصل وتكريت وديالى ومناطق داخل بغداد، إضافة إلى الفقر الشديد الذي تعانيه المحافظات ذات الغالبية الشيعية أيضاً مثل الديوانية والسماوة وذي قار وواسط وأقضية الحلة وسواها من المناطق، جراء ظواهر النهب للموازنات والتخصيصات حتى امتلأت ملفات محاكم النزاهة بالشكاوى المقدمة من سكان تلك المناطق على مسؤولين وبرلمانيين وموظفي الدولة ولكن بلا جدوى.

ديمقراطية في مجتمع لا يعرفها

هذه المعطيات لم تأتِ من حكومة بعينها من الحكومات الست التي تعاقبت على العراق ما بين 2003 و2024 بل تعزى، بحسب رئيس مركز التفكير السياسي الباحث إحسان الشمري إلى “أزمة الديمقراطية في العراق التي تعود للحظة تأسيس هذا النظام، فالتشكيل الطائفي القومي لإدارة البلاد خلال المرحلة الانتقالية الممتدة بين عامي 2003 و2005 التي دفعت إلى تثبيت سيطرة المكونات على الدولة والنظام، فضلاً عن أن مَن تصدّر المشهد والقرار السياسي في العراق لا يؤمن بالديمقراطية كنظام يقود الدولة، بل كان مؤمناً بفكر إسلامي – طائفي، مما يتعارض مع التأسيس الصحيح للديمقراطية”.
وأضاف أن “النظام السياسي والعملية التي انبثقت منه وتشكلت الحكومات والمعادلات على أساسه، لم يعُد قادراً على إنتاج الحلول بصورة ممكن أن تنهي كثيراً من الأزمات، أزمات النظام أو الثقة بالطبقة السياسية من قبل الشعب بعد أن اهتزت الثقة بالديمقراطية في أعين الشعب العراقي، لذلك فإن السيناريوهات التي يمكن أن تصحح المسار من وجهة نظري تكون من خلال الذهاب نحو عقد سياسي جديد يمكن أن يصحح الأخطاء، منها ما يرتبط بأخطاء النظام البنيوية وأيضاً ما يرتبط بمحاولة تحرير النظام من سطوة الزعامات والأحزاب التقليدية ولكن من خلال تعديل الدستور العراقي الذي أُقرّ عام 2005، ووضع آليات يمكن من خلالها مراعاة تجربة عقدين من الزمن. كل هذه التجربة يمكن أن تصاغ بإصلاح جديد وهذا العقد السياسي الجديد الذي ينهي كثيراً من معضلات النظام والطبقة السياسية. وبخلاف ذلك، فإن الأزمات ستتوالى ولن تنتهي، فالنهج ذاته يسيطر على الدولة الحالية من دون اختلاف يمكن أن يكون فارقاً، فكل ما في الأمر، تتغير الوجوه وتتغير نسب بعض الأحزاب من خلال نتائج انتخابية مشكوك بها، لكن النهج ذاته مستمر كالمحاصصة والفساد وسوء الإدارة ونقص الخدمات مما يضاعف من النقمة الشعبية، لذلك حتى الذهاب إلى الانتخابات المبكرة يبدو خياراً سياسياً أكثر مما هو خيار شعبي. فهذه القوى تحاول أن تديم نفسها وتعطي نفسها شرعية من خلال الانتخابات التي يجب ألا يكون هدفها فقط هو تغيير رئيس الوزراء وأعضاء الحكومة بقدر ما يكون الذهاب إلى الانتخابات المبكرة، ولا بد من أن يصاحبها مشروع وطني يدفع باتجاه إصلاح الأخطاء جميعها، فالقضية لا ترتبط بوجود برنامج حكومي جديد. وحتى هذا البرنامج الذي قدمه رئيس الحكومة محمد شياع السوداني لم ينفذ لأسباب وعوامل عدة، جزء منها يتحمله رئيس الوزراء وجزء يتحمله الإطار التنسيقي المشكل من الأحزاب الشيعية وائتلاف إدارة الدولة. وفي النهاية المشكلة ليست في الانتخابات المبكرة التي تكون عادة مخرجاً للقوى السياسية أكثر مما هي بوابة لأمل جديد بالنسبة إلى الشعب العراقي، ويبدو أن طرح فكرة الانتخابات المبكرة هو نتيجة الأزمة الكبيرة التي تعانيها القوى السياسية جراء انعدام الثقة في ما بينها وتصادم المصالح”.

عقد اجتماعي جديد

واستدرك الشمري أن “لدينا مشكلة مع المعادلة السياسية برمتها، مما يتطلب جهداً كبيراً، فما لم يبدأ العمل على هذا العقد السياسي الاجتماعي الجديد أتصور أن النظام السياسي سيكون على المحك، حتى الطبقة السياسية ستكون مسؤولة عما وصلت إليه الأوضاع في العراق وهي مسألة وقت، فحينها لن يكون هناك من يدافع عن النظام إذا ما استمرت هذه الأوضاع السياسية التي انعكست على حياة المواطن، ففي لحظة ما سنكون أمام متغير كبير جداً وهو داخلي وليس خارجياً وعند ذلك تبدأ مرحلة جديدة من صياغة وتصحيح هذا النظام السياسي ومرتكزاته”.
وتفرض الأزمة الحالية في العراق سيناريوهات محتملة للتغيير جراء الانقسام العمودي بين المكونات، فهناك انقسام شيعي- شيعي بين قوى “الإطار التنسيقي” بزعامة نوري المالكي من جهة، و”التيار الصدري” بزعامة مقتدى الصدر المنسحب من البرلمان والمستقيل من العمل الحكومي، وانقسام آخر كردي- كردي بين “الحزب الديمقراطي الكردستاني” بزعامة مسعود برزاني من جهة و”الاتحاد الوطني” بزعامة بافل طالباني، وثالث بين السنة بين حزب “تقدم” بزعامة محمد الحلبوسي من جهة وحزب “عزم” بزعامة خميس الخنجر، وكلاهما من قبيلة واحدة هي الدليم في الأنبار.

التعليقات معطلة.