“النهار العربي” في”ستالينغراد” السّورية… حمص تضمد جراحها رغم بثور الحرب

1

سوق مزدحم في مدينة حمص السورية بإحدى ليالي رمضان

حتى أواسط العقد الماضي وما بعده بقليل، دأبت معظم دول العالم بسياسييها وإعلامها على وصف حمص بعاصمة “الثورة” السورية، وهي المدينة الواقعة قرب الحدود مع لبنان  وفي منتصف الطريق بين العاصمة دمشق وحلب، وشكّلت المدينة وقتذاك بيضة القبان في عموم الصراع العسكري المباشر على الخريطة.

مئات المفخخات انفجرت في حمص خلال سنوات الصراع، مئات آلاف القتلى والجرحى، وأكثرهم مهجرون. قرابة نصف المدينة استوى بالأرض دماراً، واستوطنت المعارك  كل أحياء المدينة دونما استثناء، وكان الصراع بندقية لبندقية ومدفعاً لمدفع في خطوط تماس تظهر وتتلاشى وتغيّر موقعها كل يوم.

أشدّ سنوات تاريخهاً ظلاماً

مرّت على حمص سنواتٌ عجاف، حولتها لمدينة أشباح قبل أن يقتحم   الجيش السوري وحلفاؤه خطوط دفاع الخصم في مواقع حساسة، بالتزامن مع دخول ما بات يعرف بـ”التسويات” على خط المعارك المحتدمة.

 عام 2014، وافق مسلحو حمص القديمة، وهم المسلحون الذين شكلوا العقدة الأكبر في وجه تقدم خصومهم، على مغادرة المدينة بموجب تسوية قضت بخروجهم إلى ريفها الشمالي وأرياف أخرى.

تباعاً، استمرت المعارك صوب أحياء أخرى، ومع استمرار عجلة التسويات. كانت المعارك تنحسر من هنا، والجيش يوسع سيطرته من هناك، ومعدل المفخخات يزداد في المدينة ويحصد أرواح العشرات، حتى انتهت مرحلة العسكرة ودخلت المدينة نفق التفخيخ المظلم والمخيف لساكنيها الذين ما عادوا يموتون قصفاً وقنصاً، بل يموتون لكثرة انفجار سيارات محملة بمواد “تي إن تي” و”سي4″ شديدة الانفجار، والتي كانت أحياناً تسقط أبنية بحالها.

بين كل ذلك، شهدت المدينة ما لم تشهده مدينة أخرى، الخطف الذي لم يتوقف يوماً، والذي لم يكن بقصد الفدية أكثر منه بقصد الإرهاب أو تبادل مخطوفين آخرين. وعلى ذلك عاشت حمص فوق صفيح ساخن من القلق والتوتر، حتى اكتسبت أهميةً دولية دفعت وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك هيلاري كلينتون لتخرج بمؤتمرات صحافية تتحدث فيها عن حمص مسميةً الأحياء بأسمائها وما يحصل داخلها.

بداية التعافي

قرابة 2018 بدأت حمص تستعيد عافيتها وشيئاً من بريق أيامها ما قبل الحرب. اندثر عهد السلاح والخطف والتسويات واستعادت الحكومة السورية السيطرة عليها بالكامل وتباعاً سيطرت على أريافها أيضاً.

لم تكمن المشكلة في موعد انتهاء معاناة حمص واستعادة المدينة عافيتها، فالجميع كان يعلم مع مرور الوقت واتضاح خرائط نفوذ الأطراف المتحاربة أين تسير الأمور، وكيف ستنتهي، ولكنّ المشكلة الكبرى كانت في المجتمع عينه الذي بقي داخل المدينة، المجتمع المتفاوت عبر التاريخ طبقياً واجتماعياً وفئوياً وعرقياً ودينياً وطائفياً، المجتمع الذي اصطف كلٌّ منه مع طرف.

هذا المجتمع الذي بقي داخل المدينة وبمعزل عن اصطفافه داخل الحرب، ولكنّه رفض مغادرتها خلالها أو خلال التسويات، مفضلاً أن يظلّ حيث هو ما دام بيته قائماً ولا نيّة ثأرية جماعية لدى أحد اتجاه الآخر، وتلك النيّة الثأرية انتفت ليس لصفاء النفوس الآني بقدر ما هو انعكاس تعب سبع سنوات متواصلة من شلالات الدم المهيمنة على المدينة.

 “ستالينغراد”

لا يمكن شرح ما حصل في لحظة الأمان الأولى التي استشعرها ساكنو المدينة، وكأنّ حرباً لم تمرّ من هذا المكان وتجعل منه “ستالينغراد” السوريّة، أمانٌ وإن كان محمولاً على قلق بدا اليوم أنّه كان مؤقتاً للغاية، فشهراً تلوَ آخر انتعشت المدينة وأعيد ترميم ما أمكن منها بجهود محلية فردية غالباً.

اندمجت الأحياء سريعاً مع بعضها وفق عجلة حياة يريدها أصحاب المدينة بأي ثمن وخارج أي حساب طائفي أو مناطقي، هذا ما قاله سكان في حمص لـ”النهار العربي” خلال زيارته للمدينة التي بازدحامها هذه الأيام تتفوق على العاصمة نفسها.

ومن لا يعرف بابا عمرو؟

أحمد معروف، مهندسٌ يسكن حيّ المضابع، واحدٌ من الأحياء التي اصطفت خلال الحرب إلى جانب الجيش، لا يصدق أنّه يتبادل الزيارات مع صديق عمره الحاج أبو ثائر، وعلى حدّ تعبيره ليست المعجزة في تبادل الزيارة بل في مكانها.

يقول: “أبو ناصر يقطن بابا عمرو، منتصف بابا عمرو، أشهر الأحياء السورية خلال الحرب، ومنزله قريب من المخازن التي توالت منها صور المجازر والمعارك والحصار. لم أتخيل أنّه سيأتي يومٌ أدخل حيّه كل بضعة أيام لأزوره، وأن يزورني هو أيضاً، ورغم أني في أقصى المدينة وهو في أقصاها الآخر، فنحن نزور بعضنا البعض ولا حواجز في أحيائنا ولا في المدينة كلها، تلك هي الحياة التي تستحقها حمص”.

لا إرهاب ولا شبيحة

لا ينفكّ سكان المدينة يخبروننا كيف يتبادلون الزيارات عابرين طرقاً كان الموت مصير كل من يسلكها قبل سنوات، وكيف صار ذلك من الماضي المستبعد الذي لا يريد أحد تذكره. فما حصل – على حد وصفهم – يكفي أن يكون عبرة لمئة عام .

بين أولئك كان الحاج وفيق دربلي الذي يمتلك معملاً صغيراً للرخام في الأحياء القديمة من المدينة، والتي كانت مغلقة ومحاصرة خلال الحرب. في معمله ذلك يعمل تسعة شبان، يقول الحاج وفيق: “يعمل هؤلاء الشبان لديّ منذ سنوات، ينتمون لطبقات ومذاهب مختلفة تقاتلت بشراسة خلال الحرب”.

ويضيف: “أقسم بالله منذ بدأنا العمل والتأم شمل العاملين لديّ، لم يوجه أحدهم لآخر تهمةً أو نظرة ازدراء، ستة منهم ينتمون لمناطق معينة، وثلاثة لمناطق أخرى، لا هؤلاء يقولون عن أولئك شبيحة، ولا هؤلاء يقولون عنهم إرهابيين، هذه الكلمات اندثرت بأعجوبة، نعمل معاً، ونتناول الطعام معاً، وجميعهم كأولادي وصاروا أصدقاء ويتبادلون الزيارات والنشاطات معاً”.

سوق ذاكرة المدينة

خلقت الحرب بفعل عزل الأحياء بعضها عن بعض أسواقاً طارئة داخل كل حيّ، ولكنّ الذاكرة الجمعية العامة لسكّان المدينة ظلّت مرتبطة بأسواق منتصف المدينة المركزية والتي كانت تحت مرمى نيران الحرب، ومن بينها سوق الدبلان الملامس لساعة المدينة الكبرى الشهيرة والأشهر في سوريا.

كان لا بدّ من زيارة ذلك السوق الذي عاد للعمل بصورة تجاوزت الطبيعية نظراً للإمكانيات والزمن والظرف العام نفسه، ورغم المعرفة السابقة أنّه عاد لنشاطه النسبي، ولكنّ المشهد هناك كان مفاجئاً للغاية، سوق لا يتعدى طوله كيلومتراً واحداً يتطلب اجتيازه سيراً عشر دقائق أو ربع ساعة، ولكن هذه المرّة استغرق اقل من ساعة بقليل.

مشاهد تستحق التوثيق

“النهار العربي” زار السوق الشهير المختص بمعظمه ببيع الأحذية والملابس بعد الإفطار الرمضاني، تحديداً قرابة العاشرة ليلاً،  وكان الاكتظاظ لافتاً.

من الطبيعي أنّه ليس كل مشهد يستحق التوثيق، ففي سوريا آلاف المظاهر التي خلفتها الحرب، ولكنّ منظر الآلاف في مدينة تحولت قبل سنوات ركاماً يسكنها اشباح، تنهض بهذه السرعة، يستحق كل التوثيق للتاريخ والمستقبل معاً.

رائد صاحب أحد المحال هناك قال لـ”النهار العربي”: “هذا الدبلان، سرّ حمص الكبير، الناس هنا كل يوم هكذا في رمضان ولساعات ما بعد منتصف الليل، صحيح أنّ حركة الشراء شبه معدومة بفعل الظرف الاقتصادي، ولكنّه مكان لاجتماع الناس وذكرياتهم”.

وقال معين، وهو صاحب محل آخر: “تشعر فجأة أنّ المدينة كلّها تتجمع هنا، ولكنّ الحقيقة أنّ الأسواق كلّها ممتلئة بغض النظر أنّ الناس لا يشترون. المدينة اليوم ترحب بأهلها من جديد وتفتح ذراعيها لهم بعد حزن طويل، الدبلان عموماً مزدحم، ولكن في هذه الأيام تضطر الشرطة لإغلاق مداخله ومخارجه لئلا تعطل السيارات هذا الحضور الجماهيري بين رصيفيه”.

التعليقات معطلة.