كان يفترض بوفد المعارضة الذي شارك في مفاوضات جنيف الأخيرة أن يأتي إلى المفاوضات بورقة استسلام أمام شروط النظام، كي لا يغضب بشار الجعفري من المعارضين، ومن المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، الذي هدّده الجعفري بأن بقاءه في هذه الوظيفة صار على المحك، بعدما أظهر مسايرة لوفد المعارضة، وفق اتهامات رئيس وفد النظام السوري.
ولأن الزمن هو زمن ضرورة «الاعتراف بالواقع»، تمثلاً بدعوة دونالد ترامب إلى الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، يقضي «الواقع السوري» كذلك افتراض حق بشار الأسد في البقاء حاكماً للسوريين. فكما نجحت القوة المجرّدة في فرض «واقعها» على الشعب الفلسطيني في الحالة الأولى بالقتل والاحتلال وتدمير البيوت، هكذا نجحت القوة المجرّدة للنظام السوري في فرض هيمنتها على الأرض وعلى الشعب في وجه المعارضين. وهو ما يطالب بشار الأسد السوريين والعالم بالاعتراف به والاستسلام أمامه: لقد انتصرنا في المعركة معكم فلماذا لا تقرون بذلك وتذهبون إلى بيوتكم؟
عدم الاعتراف بـ «انتصار» النظام هو ما سبّب غضب بشار الجعفري من دي ميستورا بعد مفاوضات جنيف الأخيرة، التي اعتبر المبعوث الدولي أنها كانت «فرصة ضائعة»، لأن النظام رفض البحث في الأمور السياسية مثل الدستور الجديد والانتخابات، وأصر على اعتبار محاربة الإرهاب بنداً وحيداً للنقاش. لكن «الجريمة» التي ارتكبها دي ميستورا أنه أكد على ضرورة تطبيق البيانات والقرارات الدولية التي أقرّت الشروط الضرورية لأي حل مقبول للأزمة السورية، وفي مقدمة هذه الشروط قيام هيئة حكم تشرف على المرحلة الانتقالية، التي يتم خلالها إقرار دستور جديد وإجراء انتخابات نيابية ورئاسية بإشراف دولي. إنها «الجريمة» ذاتها التي أدّت سابقاً إلى اعتزال كوفي أنان والأخضر الإبراهيمي، بعدما اكتشفا أن رئيس النظام السوري لن يوافق على أي تسوية تُفضي إلى تنازله عن الحكم.
الاستسلام المطلوب من معارضي النظام السوري يعود في نظر النظام إلى تفوقه العسكري في المعارك التي يخوضها، والتي حسمت مصير معظم المدن والمناطق السورية. أما ما لم يُحسم بعد، كما هو وضع الغوطة الشرقية لدمشق، فيتم تدميره وقتل سكانه بهدف إخضاعه بالقوة. وليس مهماً في نظر النظام أن انتصاره على السوريين يتم بفضل الاستعانة بالقوات الروسية والميليشيات الإيرانية. فبالنتيجة هذا هو الواقع الذي يريد بشار الأسد من السوريين ومن دول المنطقة ومن العالم الاعتراف به. الواقع أن نظامه استطاع بعد أكثر من ست سنوات على الحرب التي يخوضها على شعبه، وأمام عجز دولي أدّى إلى ترك الشعب السوري لمصيره البائس، أن يفرض شروط الاستسلام التي يريدها، أو هكذا يعتقد.
بالتالي، لم يعد بشار الأسد ونظامه ومؤيدوه من «ممانعي» المنطقة يرون أي مبرر لتطبيق القرارات الدولية المتعلقة بحل النزاع، ومن بينها بيان «جنيف1» والقراران الدوليان الرقم 2118 و 2254. إنه يعتبرها إضاعة لوقته الثمين. من هنا، كان غضب بشار الجعفري من تبنّي وفد المعارضة البيان الذي صدر عن المؤتمر الأخير الذي عقدته فصائلها في الرياض، والذي نص على «مغادرة رئيس النظام السوري بشار الأسد وزمرته ومنظومة القمع والاستبداد مع بدء المرحلة الانتقالية»، وهو نص لا يختلف مضمونه عن البيانات والقرارات التي تحدثت عن «قيام هيئة حكم انتقالية»، والتي انطلقت من أن أي حلّ قابل للعيش في سورية لم يعد ممكناً من دون أخذ المعطيات الجديدة في الاعتبار، ومن أهمها ضرورة القطع مع النظام القائم، المسؤول عن مقتل ما يقارب نصف مليون سوري وتدمير ثلاثة أرباع البلد.