د. عبد الله فيصل آل ربح
أستاذ علم الاجتماع الديني والنظرية الاجتماعية بجامعة غراند فالي وباحث غير مقيم في معهد الشرق الأوسط – واشنطن. رئيس تحرير دورية ميشيغان المحكمة لعلم الاجتماع.
يعد الميل للفردانية والاكتفاء بالذات من أخطر من التطورات التي يعيشها البشر في حقبة ما بعد الحداثة. فقيمة الأسرة تتراجع بشكل كبير مقارنة بالحُقب الماضية حين كان الأفراد يعيشون في منظومات تكافلية تحتّم عليهم المشاركة في توفير ضروريات حياة أفراد المجموعة. فمرحلتا ما قبل الحداثة والحداثة اتسمتا بوضوح تقسيم العمل بين أفراد الأسرة، مما يجعل الطفل والمراهق يؤمنان بحتمية الزواج (أو أشكال المشاركة الأخرى) حيث ثمة احتياجات لا تتم تلبيتها إلا من خلال إيجاد الشريك الذي يبني مع الشخص منظومة مشابهة لتلك التي تخرّج فيها، أي الأسرة.
إذا كانت فترة ما قبل الصناعية (التي رافقتها ما قبل الحداثة) قد اتسمت بالتعامل المباشر مع الطبيعة للحصول على أساسيات الحياة، فإن مرحلة الثورة الصناعية (التي رافقتها الحداثة) قد أعطت للعلاقات البشرية بُعداً آخر يتناغم مع تعقيد تعامل البشر مع الطبيعة من خلال «التصنيع». لقد لعبت الصناعة دوراً في تغيير مسار الاقتصاد الكلي للدول مما فرض فكر الحداثة على المجتمعات. ومن أبرز تلك الآثار تقلّص الحاجة للمنظومة الكبرى (أي الأسرة الممتدة) والاكتفاء بالدائرة الصغرى، حيث يتقاسم الشريكان المسؤوليات المادية والأعباء المنزلية على أساس تناسب المشاركة المادية مع المشاركة المنزلية.
بالوصول لمرحلة ما بعد الصناعية التي واكبتها ما بعد الحداثة، تم التحول من سوق الإنتاج إلى سوق الخدمات. ولتسهيل ذلك تم التوسع في تقديم الخدمات التي كانت يوماً ما جزءاً من التكافل الأسري. لم تعد هناك حاجة ملحة للطبخ وغسل الملابس أو تنظيف المنازل، فكل تلك أمور يمكن توفيرها من خلال مزودي الخدمات. وعليه، وجب على كل فرد أن يقوم بالبحث عن مصدر دخل خاص يجعله قادراً على الحصول على تلك الخدمات بشكل فردي. كل ذلك يصب في صالح الاقتصاد الرأسمالي القائم على ثنائية العمل الدؤوب والاستهلاكية. فالفرد يعمل بشكل دؤوب من أجل كسب المال الذي سينفقه لاحقاً على استهلاك البضائع والخدمات؛ وكلّما ارتفع الدخل توسّعت دائرة الاستهلاك التي تعيد أموال الدخل المرتفع إلى أصحاب رأس المال عن طريق الاستهلاك.
إن التطور في الاستغناء المادي عن الأسرة سهّل عملية الاستغناء المعنوي. فالشعور بالحاجة لتكوين أسرة قد تغيّرت محفزاته بشكل جذري؛ فلا الرجل يبحث عن زوجة تقوم بأعمال المنزل، ولا المرأة تبحث عن زوج يرعى أمورها المادية. بالتالي، فقد تحول تفكير الناس إلى مميزات أخرى للشراكة الزوجية تقوم على نوعية جديدة من المطالب. أصبح الانسجام والتناغم في الرغبات (نوعية الطعام المفضل والموسيقى والأفلام) من الأمور الرئيسية في الشريك الذي لم يعد زوجاً أو زوجة تقليديين. يُضاف لذلك أن مسؤولية تربية الأطفال اختلفت من كونها عملية تنشئة اجتماعية تقوم على غرس العادات والتقاليد الاجتماعية والدينية، إلى عملية البحث عن التعليم ذي الجودة العالية، والتدريب على هوايات يُرجى أن تعود بالنفع على الطفل سواء في الرياضة أو الفنون.
خلاصة القول: إنه بتوفير ضروريات الحياة عن طريق مزودي الخدمات، وبضرورة الخروج للعمل الدؤوب للجنسين، فإن الرجل والمرأة قد أُجبرا على رفع مستوى الاستحقاق في نوعية الشريك الذي سيعيش كل منهما معه. فهو وهي يريدان شخصاً يضيف لحياة الآخر شيئاً لا يوفره مزودو الخدمات. بالتالي، فإن صعوبة الاختيار تحتاج إلى حيلة نفسية تشرعن هذا النوع من الشعور بالاستحقاق المرتفع؛ وهنا يأتي شعور «الاكتفاء بالذات» عن الآخر.
عبارات مثل: «أنا سعيد بوحدتي ولا أريد أن يعكر عليّ أحد حياتي»، و«أنا أولى بنتاج جهدي وعملي»، و«لا أريد تحمل مسؤولية أحد» وغيرها من العبارات… ليست أكثر من عبارات تحفيزية تشرعن للفرد حالة الإحجام عن الانتقال من حالة الفرد إلى الأسرة. هذه الحالة تجعل من الشخص أسيراً لثنائية العمل والاستهلاك؛ فالعمل تحقيق للذات المُكتفى بها، والاستهلاك للسلع الباهظة عملية مكافأة لتلك الذات التي تستحق وحدها أن نعتني بها.
أخيراً، فإن الواقع يقول إن العجلة لن تعود للوراء، وإن الاقتصاد الرأسمالي يسير بخطى ثابتة نحو «ما بعد بعد الصناعية» التي من أبرز تجلياتها الذكاء الاصطناعي، وهذا ما سيستدعي بالضرورة الدخول في مرحلة «ما بعد بعد الحداثة» التي قد يحلّ فيها الذكاء الاصطناعي محل البشر في إيجاد رفيق على مزاج الفرد. وقتها، سيكون الاستهلاك قد وصل إلى الذروة في تقليص الأسرة، وربما يكون السبيل لتراجع عدد سكان الكوكب.