فيصل محمد صالح
وزير الإعلام السوداني السابق
حادثة صغيرة وقعت في ساحة التلفزيون القومي للسودان في مقرّه المؤقت بمدينة بورتسودان أعادت طرح السؤال القديم حول الهوية وسؤال القومية في السودان. الحادثة في وضعها الطبيعي قد تكون مشكلة إدارية صغيرة تعالَج وفق القوانين والإجراءات، وقد لا يسمع بها أحد، لكنها وقعت في ظل أجواء متوترة بشكل استثنائي فتحولت مشكلة كبيرة تسيدت تفاصيلها السوشيال ميديا، وتبعتها حملة سياسية ومجتمعية وتحركات على الأرض انتهت باحتلال مباني التلفزيون، ومطالبات تراوحت بين المطالبة بإبعاد مدير التلفزيون ونقل التلفزيون نفسه من بورتسودان.
بدأت المشكلة بـ«بوست» على «فيسبوك» كتبته مذيعة بالتلفزيون تنتمي إلى شرق السودان قالت إن مدير التلفزيون تحدث معها حول ظهورها على الشاشة بزي نساء شرق السودان، وطالبها بالالتزام بالزي القومي، الذي هو عادة الثوب النسائي السوداني المعتاد، كما طلب منها عدم استخدام عبارات التحية للمستمعين بلغة البجا، التي هي إحدى اللغتين المنتشرتين بشرق السودان (البداويت والتقراييت)، واعتبرت ذلك موقفاً عنصرياً من مدير التلفزيون وعدم اعتبار واحترام لثقافة البجا بشرق السودان. وتمكن الإشارة هنا إلى تلفزيون السودان الذي ليس له دليل مكتوب للزي Dress Code، لكن هناك تقاليد عملية غير مكتوبة، ويتم تجاوزها أحياناً.
تناقل الناس الـ«بوست» وتبعته حملة من أبناء البجا ضد التلفزيون ومديره، ثم تصاعدت الحملة ضد سياسات الدولة بشكل عام في التعامل مع اللغات والثقافات المحلية المتعددة والمتنوعة في السودان، وانتهت بتصعيد وصل إلى احتلال مباني التلفزيون واستديوهاته من أبناء البجا، ورفع عدد من المطالب.
أعادت هذه القضية طرح الكثير من الأسئلة، بدءاً من السؤال عن الهوية والقومية ومروراً بقضايا التهميش وسياسات عدم المساواة، وانتهاءً بخطورة استخدام التجييش الإثني والقبلي في الصراعات السياسية، بما يهدد بتفتيت الدولة السودانية.
طوال فترة الصراع السياسي في السودان ظلت هناك مدرسة تقول بأن مشكلة السودان الأساسية هي مشكلة هوية غير محسومة، وأن هناك محاولة لقمع الثقافات واللغات المحلية السودانية المتنوعة لمصلحة الثقافة العربية الإسلامية، ويعتبرون أن فترة حكومة الحركة الإسلامية تحت قيادة عمر البشير هي أكبر وأخطر مراحل تجليات هذه الأزمة. لكن هناك مدارس أخرى تعتبر أن التهميش السياسي والاقتصادي وغياب التنمية المتوازنة هي أساس المشكلة، وأن اعتماد سياسات التنمية المتوازنة وتوزيع السلطة والثروة على أساس لا مركزي كفيل بالاستجابة للمطالب الرئيسية للمجموعات المهمشة. في مراحل لاحقة اتفق معظم المجموعات السياسية، تقريباً، على اعتماد مبدأ الاعتراف بالتنوع الثقافي واللغوي والديني في السودان والنص على ذلك في الدستور، كما حدث في دستور 2005، ثم في الوثيقة الدستورية 2019، لكنه ظل نصاً معلقاً لم تتبعه تطبيقات وسياسات عملية تنزله لأرض الواقع وتحسن إدارة التنوع بشكل إيجابي.
ويدور نقاش مستمر حول مسألة الزي القومي السوداني، الذي غالباً ما يشار به إلى الثوب السوداني بالنسبة إلى النساء والجلباب والعمامة للرجال، حيث ترفض بعض المجموعات الاعتراف به؛ لأنه غير مستخدم في كل أنحاء السودان، وهناك مجموعات سودانية لها أزياء مختلفة قليلاً عن ذلك، وهذه حقيقة. لكن من الممكن المحاججة بأنه الزي المستخدم عند الغالبية من سكان السودان، وإن كان شرط اعتماد زي قومي لأي بلد هو أن يكون مستخدماً من كل السكان، فلن تجد بلداً في العالم لديه زي موحد أو شعار قومي.
يشار للأميركي برمزية «الكاوبوي»، لكن في الحقيقة فإن رعاة البقر موجودون في ولايات الغرب فقط، وليس لهم وجود في باقي الولايات الأميركية، والمملكة المتحدة مثلاً بها لغة غير الإنجليزية في مقاطعة ويلز، وسكان أسكوتلندا لهم زي مميز ومختلف، لكن رغم ذلك تتخذ الدول رموزاً قومية لها بالتراضي، سواء كان لغة أو زيـاً أو غيره، يقبل به جميع السكان من دون قسر أو قمع.
تبقى قضية التجييش الإثني والقبلي في السودان حاضرة، وهي قضية شائكة ومعقدة وتصعب السيطرة عليها، حتى بالنسبة إلى من استخدموها سلاحاً، ومن الممكن أن تنقلب عليهم. استخدم المكون العسكري في السلطة الانتقالية السابقة في السودان، ونعني البرهان وحميدتي، التجييش الإثني واستغلال المظالم الحقيقية الواقعة على شرق السودان لإسقاط الحكومة المدنية الانتقالية، فأوعزا إلى ناظر الهدندوة محمد الأمين ترك باحتلال الميناء وقفل الطريق القومية؛ تمهيداً لانقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، وها هو السحر ينقلب على البرهان ومجموعته وهم في المقرّ المؤقت ببورتسودان، وقد تنفلت الأمور بأكثر مما هو متوقع، يدفعون ويدفع السودان ثمناً غالياً لذلك.