مسلم عباس
الحرب في سوريا انتهت في شكلها الذي بدأت به، لكنها بدأت في شكل جديد لتبقى عقدة التقاطاعات السياسية والعسكرية بين دول مختلفة، ليس بين الخصوم فحسب انما بين الحلفاء انفسهم، كما هو حال الخليجيين، او الروس والايرانيين، حيث يقف كل منهم على ضفة معينة، لكن بالمحصلة النهائية لم تكن هذه التحالفات كافية لشرح المصالح المتداخلة بين اطراف النزاع.
التدخل الروسي منذ يومه الاول كان موضع تساؤل للكثير من المتابعين للشان السوري والدولي وخريطة التوازنات الجديدة لمرحلة ما بعد الحرب الباردة، فبعض التفسيرات تتعكز على نظرية المؤامرة الامريكية الروسية، وتفترض ان موسكو لم تكن لتاتي الى سوريا دون موافقة واشنطن، وان هناك ترتيبات مسبقة لقيام روسيا بالدور الامريكي وتنفيذ خطته في الاراضي السوري. وهي فرضية لا تدعمها الا الخيالات، لكن تبقى متداولة بشكل كبير.
الفرضية الثانية تقول ان الروس بدأوا بتنفيذ استراتيجيتهم للخلاص من العقوبات الامريكية والاوربية التي فرضت بعد ضم جزيرة القرم، وذلك عن طريق تثبيت اقدامهم في سوريا وهو ما يعني المزيد من اوراق الضغط التي تسهل الغاء العقوبات الغربية وايجاد حل للازمة الاوكرانية، ومسالة الاعتراف القرم كجزء من الاوراضي الروسية.
يضاف الى ذلك، هناك من يقول بان الوضع الدولي الحالي هو جزء من العالم متعدد الاقطاب الذي تريد روسيا التاسيس له بعد ان انتهى عالم القطبية الثنائية بنهاية الحرب الباردة وسيطرة الولايات المتحدة لحوالي عقدين من الزمن، والانسحاب الامريكي من الشرق الاوسط والتوسع الصيني بالاضافة الى بروز القوى الناشئة الاخرى مثل الهند كقوة اقتصادية، وكوريا الشمالية كقوة عسكرية مشاكسة وايران التي تحاول الاستفادة من بعض التطبيقات الكورية.
سوريا هي محور الحديث واصل اغلب هذه التحليلات والافتراضات، وتدخل روسيا فيها شغل بال الكثير من الباحثين عن فهم حقيقة ما يجري على الساحة الدولية، وخاصة في منطقة الشرق الاوسط، وفي هذا الاطار نجد ان التدخل الروسي لصالح حكومة بشار الاسد كان من المفترض ان يحميها من ثلاثة تهديدات:
الاول: تهديد الجماعات المسحلة، وهو الهدف الاساسي في المعادلة وفق الاعلانات الرسمية الروسية في اكثر من مناسبة، وقامت موسكو بهذه العملية على اكمل وجه رغم العرقلات الامريكية والخليجية وحتى التركية في بداية التدخل عام 2015 عندما تم اسقاط المقاتلة الروسية على الحدود التركية السورية، وحلت القضية عبر اعتذار الرئيس اردوغان والتحول الى التحالف الثلاثي الروسي_الايراني_التركي، اسهم هذا التحالف بقلب موازين القوى، وساعد بفرش السجادة الحمراء لفلادمير بوتين في قاعدة حميم الجوية في سوريا معلنا نهاية الجماعات المسلحة، مع فتح باب التدخل بشكل ساحق اذا ما فكرت هذه الجماعات بالعودة بحسب تعبير بوتين.
الثاني: التهديدات الاسرائيلية لسوريا، ورغم ان روسيا لم تعلن انها جاءت لوقف هجمات تل ابيب ضد الجيش السوري وحلفائه، الا انها بالمحصلة النهائية جاءت لحماية النظام السوري والتاسيس لوجودها طويل الامد، وهنا يتوجب عليها تنفيذا لاستراتيجيتها وقف التدخلات الاسرائيلية، حفاظا على سمعتها. وهو ما لم تقوم به حتى الان لاسباب تتعلق بفرض الشرعية لوجودها حتى تنتقل للمرحلة المقبلة.
لكن الروس يعرفون جيدا تعقيدات العلاقة بين سوريا وحلفائها الايرانيين وحزب الله من جهة، واسرائيل من جهة اخرى، ولا تريد فتح جبهة لم تحل منذ سبعين عاما، وتفيد هذه الاستراتيجية بالتخلص من فرض اي التزامات من قبل موسكو تجاه الايرانيين والسوريين حفاظا على مصالح تل ابيب، لتجعل من هذه المواجهة مفتوحة ومؤجلة ايضا فالمناوشات موجودة منذ مدة طويلة وكانها اعتيادية.
الثالث: انهاء الوجود العسكري الامريكي، الذي يزاحم الروس ويجعل انتصارهم غير متكامل بالمطلق، ويضيف اعباء كبيرة في المرحلة اللاحقة من ترتيبات ما بعد الانتصار، لذلك تصاعدت حدة النبرة الروسية واتهاماتها المتكررة للقوات الامريكية عبر قواعدها العسكرية بتوفير الحماية للجماعات المسلحة الارهابية تحديدا، واستخدام واشنطن لهذه الجماعات من اجل زعزعة استقرار سوريا، فمنذ اسابيع لم يخلو يوم من اتهام روسي لامريكا يتعلق تحديدا بدعم الجماعات الارهابية، وهو ما يعني التهيئة لفعل جديد، “فاول الحرب سجال”.
الروس بعد ان استطاعوا تسجيل النصر الاول على داعش واخواتها، لا يريدون مواجهة اسرائيل كما يتمنى جمهور “محور المقاومة”، واسراتيجية موسكو كما يبدو من سلوكها السياسي وحتى العسكري سوف تركز في المرحلة المقبلة على نزع الشرعية من الوجود الامريكي من خلال ابراز عدم قانونية وجودها لان الحكومة السورية لم تعطيها الاذن بانشاء قواعدها، والثانية عبر اتهامها بدعم الجماعات الارهابية.
وهذه الاستراتيجية تعني ان المنطقة مقبلة على تغيرات كبيرة ليس على الساحة السورية فحسب، فربما ينسحب هذا الصراع الى مناطق اخرى مثل اليمن او التدخل في الازمة الخليجية من اجل نزع ثقة الخليجيين بواشنطن لا سيما وان كل الظروف مهيئة لذلك.