إبراهيم أبو جازية
كان نظام الرئيس السوري، بشَّار الأسد، يسير نحو الهزيمة، عندما قرر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، التدخل عسكريًا وجويًا في سوريا في الثلاثين من سبتمبر (أيلول) عام 2015، لينقلب المشهد تمامًا، وتتغير الأوضاع كثيرًا في سوريا، بل وفي المنطقة بأسرها، وتتحول الهزيمة إلى مكسب، ويستعيد النظام «الأسدي» جزءًا كبيرًا من البلاد بفضل الغارات الجوية الروسية، التي كان من المفترض أن توجَّه إلى الجماعات المتمردة والمتطرفين، إلا أنها استهدفت البنية التحتية المدنية السورية عن عمد، الأمر الذي أدى إلى اتهام روسيا بالقصف الوحشي، بيد أن الجيش السوري نفى ذلك.
هل تنتهي مهمة القوات الجوية الروسية في سوريا الآن؟
الآن، تحررت سوريا تمامًا من قوات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، أصدقاؤكم ووطنكم في انتظاركم، ستعودون إلى هناك وأنتم منتصرون. لقد تم إنقاذ سوريا كدولة مستقلة ذات سيادة. سيعود اللاجئون إلى وطنهم، والوضع الآن أصبح مناسبًا لتسوية سياسية تحت رعاية الأمم المتحدة.
هذا ما صرَّح به الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لجنوده، في خلال زيارته المفاجئة لقاعدة «حميميم» الجوية الروسية في سوريا، يوم الاثنين 11 ديسمبر (كانون الأول) 2017 الجاري؛ حيث أعلن بوتين سحب قواته من سوريا، وذلك بعدما تحققت الأهداف التي تدخلت عسكريًا من أجلها، لكن الإعلان عن انسحاب القوات الروسية في سوريا لم يكن الأول؛ فقد أعلن بوتين إعلانين سابقين مماثلين من قبل، إلا أن أحدًا منهما لم يتحقق؛ ولم يتبعهما إلا تخفيض بسيط في القوات الروسية في الداخل السوري.
اقرأ أيضًا: بوتين يعلن الانسحاب للمرة الثالثة من سوريا.. ما الذي يريده الآن؟
ولكن؛ ربما يصدق الوعد هذه المرة، لا بفضل القوات الروسية وحدها، ولا بسبب مزاعم بوتين عن النجاح في القضاء بشكل كامل على قوات «داعش» في سوريا، وإنما لوجود الثلاثي المتمثل في القوات الجوية الروسية، والقوات السورية، والقوات الخاصة بحزب الله اللبناني، والمدعومة من إيران على الأرض؛ حيث استطاع هذا الثلاثي جنبًا إلى جنب تحويل دفة المعركة في سوريا بشكلٍ حاسم في مصلحة النظام السوري بقيادة بشَّار الأسد.
وفي الوقت نفسه، فإن تصريحات بوتين عن انسحاب قواته من سوريا تتعارض مع تصريحات الفريق أول سيرجي رودسكوي، رئيس دائرة العمليات العامة بهيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية، والذي صرح قبل إعلان بوتين ببضعة أيام، وتحديدًا في السابع من ديسمبر 2017، بأن القوات الروسية ستظل موجودة في سوريا، ولكنها ستقوم بدور مختلف بعد القضاء على «داعش»؛ إذ قال: «بعد القضاء على المجموعات المسلحة الإرهابية في الأراضي السورية، مجموعة القوات الروسية ستركز الجهود الأساسية على مساعدة الشعب السوري في إعادة الحياة الطبيعية، وتوفير الالتزام بالاتفاقيات حول وقف الأعمال القتالية».
كيف بدأ التدخل العسكري الروسي في سوريا؟
جاء التدخل العسكري الروسي في الحرب السورية في أواخر سبتمبر 2015، وذلك بعد طلب رسمي من الحكومة السورية للمساعدة العسكرية من النظام الروسي من أجل القضاء على الجماعات المتمردة والجهادية، فبدأت الغارات الجوية من قاعدة حميميم الروسية في 30 سبتمبر 2015، على أهداف شمال غرب سوريا في المقام الأول، كانت تخص عدة جهات مثل التحالف الوطني السوري، و«داعش»، وجبهة النصرة، وجيش الفتح، وتمركز الجنرالات والمستشارون العسكريون الروس، وعدد من القوات الخاصة الروسية بجانب الأسد من أجل تقديم المشورة.
لم يقتصر الأمر على ذلك؛ فقد أعلن بوتين بعد فترة وجيزة من بدء التدخل العسكري في سوريا في مقابلة مع التلفزيون الروسي، وتحديدًا في 11 أكتوبر (تشرين الأول) 2015، أن التدخل الروسي سيشمل مساعدة الحكومة السورية على استعادة الأراضي المسلوبة منها، بالإضافة إلى هدف آخر، هو وقف النفوذ الأمريكي في سوريا والشرق الأوسط.
ومنذ إعلان التدخل الروسي في سوريا، وفور إعطاء البرلمان الروسي الضوء الأخضر، والتصديق على قرار التدخل العسكري في سوريا، تناوب القصف الروسي على سوريا، تحت شعار القضاء على تجمعات «تنظيم الدولة» هناك، ولكن هذا التدخل لم يُعجب الولايات المتحدة، التي أعلنت في أواخر العام الماضي تشككها فيما وصفتها بـ«المزاعم الروسية»، قائلة: «إن التدخل العسكري الروسي في سوريا، ربما ليس من شأنه التخلص من الجماعات الإرهابية، وإنما قد يكون السبب الرئيس وراءه، حماية نظام بشار الأسد من المعارضة السورية».
وفي الوقت نفسه، أكد بوتين أن العملية العسكرية الروسية في سوريا لم تكن مفاجئة، وإنما تم الاتفاق المسبق حولها مع الرئيس السوري، بشَّار الأسد، مشيرًا إلى أن الهدف الرئيس من العملية هو «إعادة الاستقرار للسلطة الشرعية في سوريا، وخلق الظروف المناسبة للتسوية السياسية».
اقرأ أيضًا: «أنا في انتظار الموت».. رسائل من قلب حلب وسط القصف والدمار
وقد أسفر التدخل العسكري الروسي في سوريا عن عددٍ من المكاسب الكبيرة للحكومة السورية، أبرزها إعادة السيطرة على المدن التي فقد النظام السوري السيطرة عليها خلال السنوات الماضية؛ فقد ساهمت في استعادة مدينة تدمر الأثرية من «داعش»، وذلك في شهر مارس (آذار) 2016، بالإضافة إلى استعادة حلب منذ ما يقرب من عام تقريبًا من الآن، والتي تعتبر إحدى أهم المدن الرئيسية في سوريا، وذلك في ديسمبر 2016، فضلًا عن كسر الحصار الطويل على دير الزور بعد ثلاث سنوات كاملة منه، بالإضافة إلى استرجاع مساحات واسعة من مدينة الرقة، والتي اعتبرت في وقتٍ من الأوقات «عاصمة تنظيم الدولة الإسلامية» ومقرًا رئيسيًا له.
كيف تغيَّرت خريطة سوريا بعد عامين وأكثر من الضربات الجوية الروسية؟
شتَّان بين الخريطة السورية قبل التدخل العسكري الروسي وبعده؛ فقد أدى هذا التدخل إلى موازنة القوى المتقاتلة في الداخل السوري، محِّولًا استراتيجية النظام السوري من الدفاع إلى الهجوم، وذلك بعد أن خسر مساحات كبيرة من الأراضي خلال الأشهر الأخيرة من عام 2014، والأشهر الأولى من عام 2015.
ومع بداية الضربات الجوية الروسية، مُنحت القوات السورية غطاءً جويًا كثيفًا ومؤثرًا، مكَّنت النظام السوري من السيطرة على عدد من المراكز والمدن الحيوية، واستعادة السيطرة على عدد من المدن التي بقيت تحت سيطرة المعارضة سنوات.
وتظهر هذه الخريطة المساحات التي ظلت تحت سيطرة النظام السوري باللون الوردي حتى سبتمبر 2015، أي قبل التدخل الروسي العسكري في سوريا. وتُظهر أيضًا فقدان النظام السوري لمعظم أنحاء البلاد، وذلك بعد السيطرة عليها من عدة فصائل مختلفة؛ كتنظيم داعش، والمعارضة السورية، والمتمردين الآخرين من جهات أخرى مختلفة.
وبعد أقل من أسبوعين فقط من بدء الغارات الروسية، فتحت قوات النظام السوري أكثر من 10 جبهات في وقت واحد، وتمكنت من التقدم على جميع المحاور، كريف حلب الشمالي، ومدينة حلب نفسها، وجنوب حلب، وريف اللاذقية، ودرعا، وريف حمص الشمالي، وحمص، وغيرهم من المدن والمناطق التي تقدمت فيها القوات السورية بغطاء وبدعم عسكري وجوي من القوات الروسية، إلى أن تحولت الخريطة السورية بعد أكثر من عامين من الوجود العسكري الروسي في سوريا ليستعيد النظام السوري السيطرة من جديد على معظم أنحاء البلاد، كما توضح الخريطة التالية.
(خريطة لسوريا والعراق، ويتضح فيها الأماكن التي يسيطر عليها النظام السوري بعد عامين من تدخل روسيا عسكريًا باللون الأزرق السماوي – المصدر: بي بي سي).
وتُظهر الخريطة المُحدَّثة يوم إعلان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، انسحاب قواته من سوريا، هيمنة النظام السوري على معظم أنحاء سوريا، وهي الأجزاء المظللة باللون الأزرق السماوي.
وبعدما مثَّلت الأماكن التي كان يسيطر عليها النظام السوري قبل التدخل العسكري الروسي ما نسبته 22% فقط في أواخر سبتمبر 2015، إلا أنه في الوقت الحالي يسيطر على أكثر من 50% من المناطق.
نتائج العملية العسكرية الروسية: أكثر من 90 ألف ضربة جوية
عامان وشهران قضتهم القوات الروسية في سوريا كانت كافية للنظام السوري من أجل استعادة معظم الأراضي السورية من جديد؛ سواء من المعارضة السورية، أو «داعش»، أو الجماعات الجهادية المختلفة.
وشنت القوات الجوية الروسية أكثر من 90 ألف ضربة جوية خلال الشهور الستة والعشرين التي قضتهم في سوريا حتى هذه اللحظة، أي بمعدل 250 ضربة جوية في اليوم تقريبًا. جاء ذلك في أكثر من 28 ألف طلعة جوية منذ بدء العمليات هناك، وذلك بمشاركة حاملة الطائرات الروسية الأميرال كوزنستوف، والتي تعتبر السفينة الوحيدة الحاملة للطائرات في الأسطول الحربي الروسي.
ومن الجدير بالذكر، أن روسيا استخدمت خلال ضرباتها الجوية مادة «ثيرميت»، التي تتكون من مسحوق الألومنيوم وأكسيد الحديد، ويستغرق اشتعالها 180 ثانية فقط، وتسبب حروقًا شديدة. وبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، فقد حملت الضربات الجوية الروسية في سوريا ما بين 50-110 قنبلة صغيرة الحجم في الضربة الواحدة، محشوة بـمادة «ثيرميت»، والتي يسبب انفجارها تدمير كل شيء في محيط 20-30 مترًا.
واستخدمت القوات الجوية الروسية أيضًا، قنابل عنقودية حارقة من نوع RBK-500، والتي يصل وزن الواحدة منها إلى حوالي نصف طن، وذلك من أجل تدمير المواقع التي تزعم روسيا أنها تخص المتمردين، كما استُخدمت في سوريا لأول مرة القاذفات الاستراتيجية من نوع تو 160، وتو 95.
(قنابل عنقودية حارقة من نوع RBK-500
وقد صرَّحت وكالة «روسيا اليوم»، أن القوات الجوية الروسية أيضًا قامت باستخدام صواريخ من نوع كالبير 3M-54 الروسية في ضرباتها الجوية، والتي يبلغ طولها تسعة أمتار، وتصل سرعتها إلى نحو 885 كيلومترًا في الساعة (مماثلة لسرعة الطائرات) وبمقدورها إصابة أهداف على بعد 1600 كيلومتر.
الخسائر البشرية والمادية: أكثر من 54 ألف قتيل
أكثر من 90 ألف ضربة جوية عاتية لم تكن المباني والمنشآت لتسلم منها، ولا حتى البشر، فبالنسبة للخسائر المادية؛ دمَّرت القوات الجوية الروسية حوالي 97 ألف هدف مختلف، لتترك مختلف أنحاء سوريا في رماد، لا يوحي بأنها لم تكن موجودة من قبل.
وبالنسبة للخسائر في الأرواح، فقد وصلت إلى 54 ألفًا تم القضاء عليهم منذ بدء العملية، صُنِّفوا «إرهابيين» بحسب وسائل الإعلام الروسية الرسمية.
وفي كل هذه المعارك لم تخسر القوات الروسية إلا 39 عسكريًّا روسيًّا، من ضمنهم أفراد تم منحهم لقب «بطل روسيا»، نظرًا لكفاءتهم في المعارك أثناء أداء واجبهم العسكري في سوريا، من بينهم: المقدم أوليغ بيشكوف، والملازم أول ألكسندر بروخورينكو، والنقيب مراد أحمدشين، والعقيد رفعت حبيبولين.
وبالإضافة إلى ذلك، خسرت القوات الروسية أربع مروحيات فقط، وطائرتين حربيتين.
«الجانب الآخر من القصة»: المدنيون.. الضحايا المنسيَّون
الجانب الآخر في الخسائر المادية الصادر عن الشبكة السورية لحقوق الإنسان، يتحدث عن نوع آخر من الخسار المنسية، من المدنيين، والأطفال، والسيدات، والمنشآت المدنية، والمستشفيات، وغيرهم، وهي نوعية الخسائر التي لا يتحدث عنها الإعلام الروسي، ولا الجهات الرسمية الروسية.
وكانت الشبكة قد أصدرت تقريرها في الثلاثين من سبتمبر 2017، أي بعد عامين بالضبط منذ بدء العمليات العسكرية الروسية في سوريا. وأشار التقرير إلى وجود انتهاكات واسعة ارتكبتها القوات الروسية في سوريا على مدار عامين؛ والتي جاء أبرزها في مقتل أكثر من 5700 مدني على الأقل بسبب الضربات الجوية الروسية؛ سواء كانت بالخطأ، أو عن عمد، من بينهم 1417 طفلًا، و886 سيدة بالغة. كما سجَّل التقرير ارتكاب ما يزيد عن 250 مجزرة بالقصف الجوي الروسي في شتى أنحاء سوريا.
وبالإضافة إلى ذلك، فقد قُتل حوالي 24 شخصًا من كوادر الدفاع المدني، و16 من الإعلاميين في سوريا، مضافًا إليهم 47 شخصًا من الكوادر الطبية، من بينهم ثماني سيدات.
وبالحديث عن استهداف المنشآت المدنية، فقد أشار التقرير إلى وجود ما لا يقل عن 707 حوادث قصف على منشآت ومراكز حيوية مدنية، من ضمنها استهداف 109 مساجد، و143 مدرسة ومركزًا تربويًا، فضلًا عن استهداف 119 مستشفى ومنشأة طبية.
وطبقًا للشبكة السورية لحقوق الإنسان، فقد استخدمت القوات الجوية الروسية الذخائر العنقودية ما لا يقل عن 212 مرة، غالبيتها في إدلب، في حين استخدمت الذخائر الحارقة ما لا يقل عن 105 مرات، غالبيتها في حلب، وقد تسببت الهجمات الروسية في تعرُّض ما لا يقل عن 2.3 مليون شخص للنزوح من الأراضي السورية، هربًا من عمليات القصف الجوي والتدمير.