قسم الصحه

ذكاء الدماغ رهن “نافذة ذهبية” يحيطها الغذاء النوعي والتحفيز الذهني

التحفيز الذهني في الطفولة المبكرة يرفع ذكاء الأجيال الصاعدة (بيكسيلز)

التحفيز الذهني في الطفولة المبكرة يرفع ذكاء الأجيال الصاعدة (بيكسيلز)

فيما يراقب البشر تطور ذكاء الآلات إلى ما قد يتفوق عليهم، تغدو مسألة تطور الدماغ والذكاء البشري أكثر من مجرد شرط صحيح للوجود الإنساني. والأرجح أن من يعملون في برامج الرعاية الصحية الأولية، يعرفون جيداً تلك الجهود الكثيفة والبرامج الواسعة والدؤوبة التي بذلت لجعل مادة اليود جزءاً من الملح في أنحاء العالم. وبات شائعاً ربط اليود بحسن عمل الغدة الدرقية، لكن المعلومة الأقل شيوعاً تتمثل في أنه يؤثر على نمو الدماغ وذكائه، خصوصاً في مرحلتي الطفولة والمراهقة.

وتعتبر الأيام الألف الأولى للطفل كـ”نافذة ذهبية” في تطور الدماغ والذكاء بشرط توفر الغذاء الكافي وبنوعية جيدة والتحفيز الذهني المستمر.

ولعل المقال الذي نشرته “إيكونوميست” أخيراً مع عنوانه المثير “كيف نرفع مستوى ذكاء العالم” How to raise world’s IQ، يعيد تجربة الملح إلى أذهان كثيرة. وليس الملح واليود سوى بعض المكونات التي يستلزمها نمو الدماغ وتطور قدراته المعرفية، وتشمل قائمتها البروتينات الأساسية والحديد والزنك والمغنيزيوم والكالسيوم وحمض الفوليك وزيوت أوميغا وغيرها. وبديهي القول أن الجوع يتناقض مع كل المعطيات السابقة. ومع مكابدة الجوع، خصوصاً في المراحل المبكرة من العمر، يتضرر الدماغ يرتبك تطوره وتضمحل قدراته.

تطور الدماغ ومتطلباته المختلفة

وبديهي أن تلك المكونات وغيرها تفيد الدماغ وأعضاء الجسم، ضمن شرط أساسي يتمثل في حسن صحة الجسم بأكمله خلال مراحل العمر المختلفة، وانتظام عمل أعضائه وأجهزته كلها، وتمتعه بإمدادت غذائية تتوافق مع  احتياجاته بأنواعها كلها، وتدعيم صحته بما يلزم من النشاط البدني، والأهم منه يتمثّل بالذكاء والتطور الإدراكي والمعرفي في مراحل الحياة كلها، من الطفولة والمراهقة [هما المراحل الأكثر حساسية وحسماً]، ووصولاً إلى خريف العمر وختامه. ويعني ذلك طفولة تنعم بصحة جسدية وافرة وبتربية تحفز الدماغ والذكاء والمشاعر من أول حضن الأم لوليدها ومروراً بأيدي المدرسين والمعلمين وغيرها.

وبذا، يتفق عنوان ذلك المقال في “إيكونومست” مع المعطيات العلمية الأساسية عن تطور الدماغ وقدراته، والتي يعتبر اختبار “حاصل الذكاء” Intelligence Quotient، واختصاراً “آي كيو” IQ، من المقاييس العلمية الشائعة عنه، على رغم خلافات كثيرة بشأنه.

ويستهل المقال بأن دراسة شملت 72 بلداً، أظهرت أن IQ لسكانها ارتفع بـ2.2 نقطة كل عشرة سنوات بين عامي 1948 و 2020، أي أكثر من 15.4 نقطة.

والمثير أن العالم جايمس فلين (توفي في 2020) لاحظ ذلك التأثير، وسُميَّ بإسمه، لكنه رفضه في البداية مستنداً إلى أن الدماغ تطور عبر ملايين السنوات، فكيف لبضعة عقود أن تؤثر في تقدمه؟

وتمثلت الإجابة في الوفرة العامة لعوامل حسن الصحة الجسدية والعقلية للجنس البشري، خصوصاً الأطفال الذين باتوا يجوعون أقل ويدرسون أبكر ولسنوات طويلة وغزيرة بالمعرفة. في المقابل، لا بد من الإقرار بأن أطفال البلدان غير المتقدمة لا زالوا في ربقة أنواع مختلفة من الجوع، ويعانوا تطورهم “جوعاً” في الإمدادات المعرفية والإدراكية، من مهود الطفولة ومروراً بالمدراس ومن غير انتهاء بحياة يومية متدهورة تفتقد إلى بنى أساسية لدعم تطور الإنسان فيها، جسداً ودماغاً وعقلاً وروحاً.

أجيال مقبلة فقيرة وذكاؤها مهدد

وعالمياً، يعاني 150 مليون طفل من جوعٍ ضارٍ يحد النمو الجسدي المباشر. ويعاني نصف الأطفال من نقص مكونات متنوعة، كتلك الواردة آنفاً، لازمة للنمو الجسدي والتحفيز المعرفي. ويُترجم ذلك بخسارة 15 نقطة في “حاصل الذكاء”، وربما بالترافق مع انخفاض المداخيل بمقدار الرُبع.

وهناك عوامل تؤثر في توفر الغذاء والتحفيز الذهني، تشمل الحروب  والأمراض، خصوصاً الأوبئة، والفقر.

ويتوجب أن يكون غذاء الأطفال بنوعية عالية كي يتطور ذكاءهم، وليس مجرد سد رمقهم وإسكات جوع بطونهم بأطعمة فقيرة النوعية. وينبغي ألا تقف الذكورية والنظم الأبوية حائلاً يحول دون وصول الغذاء الكافي والجيد إلى جموع كثيرة من النساء، فيعانين فقر الدم والتأثير المضنية للحمل والإرضاع وتدهور نوعية حليب الأمهات، وأضرار صحية اخرى.

ثمة مفارقة في أن التكاثر السكاني يتصاعد بسرعة في البلدان الأفقر، ما يعني أن أجيالها المقبلة ستعاني سوء التغذية قد يضرب ذكاء أناسها. ويقدر “البنك الدولي” أن القضاء على الفقر المدقع يستلزم 12 مليار دولار سنوياً.

ومن المفيد أن تضاف بعض من المواد المهمة للجسم والدماغ كتلك الواردة أعلاه، إلى أطعمة الأطفال أو الطحين أو الرز وغيرها، لكن يجب أن تتوفر للأفواه المحتاجة إليها.

ويشير مقال “إيكونوميست” إلى أهمية برامج التلقيح، مشيراً إلى ضرورة إرفاقها بنشر الوعي عن الصحة الجسدية والعقلية، ولا يُستثنى من ذلك العمل على تغيير العادات الصحية اليومية، على الرغم من صعوبة ذلك.

ولربما يخشى البعض من لا جدوى تلك الأمور، معتبرين أن ذكاء البشر سيتخلف عن ذكاء الآلات بصورة محتمة خلال قرن أو أقل.

وعلى عكسهم، يرى البروفيسور في “جامعة هارفرد”، ستيفن بنكر، أن الذكاء هو الريح الطيبة التي تدفع شراع الحياة اليومية للبشر، وتمكنهم من التعامل مع المتغيرات كلها، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي للآلات.