نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
كل الذي حدثَ قبل ثلاثين سنة، لم يكن ممكناً رؤيته حتى في أكثر التَّخيلات جسارةً.
• عرفات يصافح رابين في حديقة البيت الأبيض، التي كان ممنوعاً عليه دخولها، وتحت رعاية الرئيس الأميركي بيل كلينتون.
• اعتراف متبادل فازت فيه إسرائيل بحقها في الوجود ضمن حدود آمنة، وفازت فيه منظمة التحرير بعدّها ممثل الشعب الفلسطيني.
• عودة أفواج مقاتلي الثورة وقادتهم جميعاً ليدشّنوا علاقةً سلميةً مع من قاتلوهم، أهم أركانها التنسيق الأمني، الموثق والمبرمج والمتفق عليه بالجملة والتفصيل، ومن بين العائدين معارضو أسلو وأهمهم قادة الجبهة الشعبية وعلى رأسهم أبو علي مصطفى، الذي استشهد في مكتبه برام الله.
• حجيج من قبل زعماء العالم الكبار لزيارة التجربة ودعمها والاجتماع بقائد الفلسطينيين في زمن الحرب والسلام ياسر عرفات، كل زعماء العالم جاءوا، وأبرزهم بالطبع بيل كلينتون الذي منحته أوسلو إجازة لعدة أيام من حكاية مونيكا لوينسكي، مع فرصة لخلوة مع الرَّب في كنيسة المهد ببيت لحم.
صدّق الفلسطينيون أن أوسلو دشّنت بداية قوية لمرحلة جديدة إيجابية في حياتهم، حين استقبلوا ياسر عرفات في غزة، وشاهدوه وجهاً لوجه، واستمعوا إليه وهو يخاطبهم من شرفة المجلس التشريعي «القديم» واعداً بزوال الاحتلال، وبزوغ فجر الحرية والاستقلال.
لنُسَمِ الأيامَ الأولى والشهور وحتى السنوات القليلة، أيام الازدهار، فقد انسحبت إسرائيل من المدن، وتوالت الاحتفالات بإنزال العلم الإسرائيلي عنها ليرتفع مكانه العلم الفلسطيني، ولأول مرة في تاريخهم ينتخب الفلسطينيون برلماناً ورئيساً، توحدت فيه الضفة مع غزة، وكانت القدس في قلبها.
جرت محادثات متصلة لاستكمال مهام أوسلو، بحيث بعد خمس سنوات سوف تولد الدولة الفلسطينية المستقلة على الأراضي التي احتلت في عام 1967 مع تعديلات متبادلة بنسبة مئوية ضئيلة، ومن ضمن ما دُفع لقاء ذلك، إلغاء مواد من الميثاق الوطني الفلسطيني بين يدي الرئيس بيل كلينتون، عبر جلسة للمجلس الوطني نظمت في غزة لهذا الغرض.
كان ياسر عرفات في حقبة الازدهار ينتقل بالمروحية الروسية الصنع بين غزة والضفة، يمارس قيادته من المدن التي حظيت بتصنيف «أ»، ولم يكن ليجد صعوبة في زيارة ما صنّف «ب»، بحيث لا يحتاج الأمر إلا إلى تنسيق روتيني مسبق مع إدارة الاحتلال المفترض أن تنتهي من تلك المناطق جميعاً بعد خمس سنوات.
في ذلك اليوم الذي بدا أشبه بالاستيقاظ من حلم جميل، انتهت مرحلة الازدهار لتبدأ بصورة دراماتيكية مرحلة الانهيار، إنه ذلك اليوم الذي أعدم فيه إسحاق رابين، بينما كان يغني للسلام المنشود في ميدان ملوك إسرائيل.
مات رابين وتيتم توأمه بيريز، كان ذلك بمثابة تبديل الحراسة على مبنى السلام، إذ تولى المهمة بعد الاثنين الرائدين من لا يؤمنان بأي سلام مع الفلسطينيين حتى لو كان في مصلحة إسرائيل «شارون – نتنياهو»، ومنذ ذلك اليوم بدأ السلام الموعود أو المنشود حالة احتضار، كانت أشبه بحالة مريض أعيا كل أطباء الكون بمن فيهم الرئيس كلينتون، الذي أدّى أكبر محاولة إنقاذ لحياة المحتضر، راهن على أنها ستدخله التاريخ بوصفه رجلاً حقق معجزة إرساء سلام مستقر ونهائي في الشرق الأوسط، أساسه حل القضية الفلسطينية.
لم تنجح المحاولة الكبرى، واندلعت انتفاضة فلسطينية ولكن مسلحة هذه المرة، اتُّهم عرفات بالإعداد لها وقيادتها، مع أنه كان حذراً في قبول أو نفي الاتهام، اختار الأميركيون بعد فشل هذه المحاولة سياسةً تتجنب فيها الضغط على إسرائيل، ودون التوسع في إيراد الوقائع، تواصل احتضار عملية أوسلو ما جعل من إنقاذ حياة المريض أمراً مستحيلاً.
بعد ثلاثين سنة ننظر إلى التجربة الكبرى لنرى بوضوح مآلاتها، إذ تحولت آمال السلام التي انبعثت من الأيام الأولى للمصافحة «التاريخية» بين عرفات ورابين، إلى حرب أقرب إلى المقتلة الشاملة، لم يسبق لها مثيل على مدى تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الطويل، وها نحن نرى بيتاً بناه أهم مهندسي العالم وأنفقوا عليه بسخاء، وراهنوا على أن يكون نموذجاً لشرق أوسط جديد، نراه وقد انهار على رؤوس ساكنيه، فمنهم من قتل ومنهم من جرح ومنهم من تشرد، والخلاصة حتى الآن أن العالم الذي صنع أوسلو ورعى ازدهارها يشاهد دمار غزة، والموت الجماعي فيها، وكذلك غموض حال الضفة، والحرب المركّبة عليها، بقدرة صفر على وضع حدٍ لما يجري.