لطالما كانت الحرب ساحة للمفاجأة والمباغتة، تعتمد فيها الأطراف المتصارعة على عنصري السرية والصدمة لتحقيق النصر. لقد خاض العراق حروبًا عديدة لم تكن فيها “قواعد الاشتباك” حيث خاض حربه الطويلة مع إيران طيلة ثماني سنوات دون أن تُعتمد قواعد محددة للاشتباك، وكذلك عندما غزا العراق الكويت في 1990، كانت الصدمة والمباغتة هي الأسلحة الرئيسية. حتى حرب الخليج عام 1991، لم تكن فيها الولايات المتحدة وقوات التحالف تبحث عن تفاهمات أو تحذيرات مسبقة، وإنما انطلقت بكل قوتها لتوجيه ضربة غير متوقعة. وعندما غزت القوات الأمريكية العراق عام 2003، عادت لتستخدم نفس العنصر – عنصر المفاجأة، حيث سعت إلى السيطرة السريعة والفعالة.
من جانب آخر، كانت حروب العرب مع إسرائيل على مدار العقود الماضية مثالا آخر على أهمية المباغتة كعامل رئيسي، سواء كان ذلك في حرب 1948، أو حرب 1967، أو حتى حرب أكتوبر 1973، حيث كان التخطيط السري عنصرًا أساسيًا في النجاح الجزئي أو الكلي لكل طرف.
لكن ما نراه اليوم في المشهد القائم بين إيران وإسرائيل، قد يبدو مختلفًا تمامًا. نجد أن هناك منهجًا مختلفًا يعتمد بشكل متزايد على الإعلان المسبق. لقد رأينا إسرائيل تُعلن عن نواياها في ضرب أهداف محددة في سوريا أو العراق، بينما إيران ترد وتحدد توقيت ضرباتها وحجم الرد وعدد الصواريخ التي سيتم إطلاقها، وكأن هناك نوعًا من التفاهم الضمني الذي يخبر الجميع بما سيتم فعله ومتى!
لماذا تغيرت قواعد اللعبة؟
قد يبدو هذا المنهج الجديد بعيدًا عن الفهم لمن اعتادوا على رؤية الحرب كحالة من السرية المطلقة والمباغتة التامة. فالسؤال الذي يطرحه العقل العادي هو: لماذا تُعلن الدول عن ضرباتها وتوقيتها والأهداف المحددة؟ ألم تكن الحرب تستوجب دائمًا الكتمان؟ وهل تحول الأمر الآن إلى نوع من “الحوار الحربي” المفتوح؟
يمكن تفسير هذا التحول عبر عدة نقاط:
- إدارة التوتر وتهدئة التصعيد: يبدو أن هذا النمط من الإعلان المسبق أو التحديد المتبادل للأهداف يأتي كجزء من استراتيجية إدارة التوتر وتهدئة التصعيد. فالتصعيد المفتوح والتوتر غير المحسوب يمكن أن يؤدي إلى حرب شاملة غير مرغوبة لأي من الطرفين. عبر تحديد وتوجيه الضربات والردود بشكل علني، يمكن للطرفين أن يتجنبوا الوقوع في “حرب غير مرغوب فيها”.
- إرسال الرسائل إلى أطراف متعددة: عندما تُعلن دولة عن نواياها بالضرب وتُحدد توقيت الضربة وحجمها، فهي لا تخاطب العدو المباشر فحسب، بل تخاطب أيضًا القوى الإقليمية والدولية. يُراد من هذا النهج تحييد القوى الكبرى، وتوجيه رسالة مفادها أن الأمور تحت السيطرة ولا تستوجب تدخلاً دوليًا. إسرائيل وإيران، من خلال هذا الأسلوب، تسعيان إلى طمأنة الآخرين بأنهما على علم بما يحدث وأن الحرب لن تتطور إلى مستوى لا يمكن التحكم فيه.
- حسابات الربح والخسارة: في بعض الأحيان، يرغب الطرفان في الحد من الخسائر البشرية والمادية. فالإعلان المسبق يسمح بإخلاء المناطق المستهدفة وتقليل عدد الضحايا، وهو ما يسهم في تخفيف حدة ردود الفعل الشعبية والإعلامية.
- إبراز القوة دون التصعيد الكامل:
في هذا النمط الجديد من الحرب، تسعى الأطراف المتصارعة إلى إبراز قوتها وتأكيد جاهزيتها للرد دون أن تضطر إلى التصعيد الكامل. إنها “لعبة عض الأصابع” تُدار أمام العالم بأسره، حيث يسعى كل طرف إلى إظهار أنه يمتلك اليد العليا، ولكنه غير راغب في دفع الثمن الفادح للحرب الشاملة.
الحرب والسلام بين إسرائيل وإيران: أين ينتهي أحدهما ويبدأ الآخر؟
السؤال الأساسي الذي يطرح نفسه هو: هل ما نراه اليوم هو حرب أم سلام؟ يبدو أن هناك حالة من “السلام الحربي” أو “الحرب السلمية”، حيث تُحدد فيها الضربات والمواجهات ضمن إطار يضمن ألا تتحول الأمور إلى نزاع شامل. هذا النوع من التفاهم الضمني بين الأطراف المتصارعة يُعتبر نوعًا من الاتفاق على حدود التصعيد، وكأنهم يقولون: “نحن نضرب، لكننا لا نريد الحرب”.
هذا التحول في مفهوم الاشتباك يستدعي التفكير في مستقبل الحروب والصراعات، هل ستستمر الحروب في التغيير من مفهومها الكلاسيكي القائم على السرية والمباغتة إلى مفهوم جديد يقوم على المكاشفة؟ وهل هذا يعني أننا أمام تحوّل نحو تقليل فرص نشوب حرب شاملة أم أنه مجرد تكتيك مؤقت تتبعه الأطراف في انتظار الفرصة المناسبة للمواجهة الكاملة؟
يمكن القول إن الحرب هي الحرب والسلام هو السلام، ولكن يبدو أن الحدود بينهما باتت مشوشة في العصر الحديث. ما نراه الآن ليس حربًا بكل تفاصيلها ولا سلامًا بكل معانيه، بل هو توازن حذر بين الأمرين، يُحاول من خلاله الجميع أن يحقق أهدافه دون أن يدفع الثمن الكامل لحرب مفتوحة. إنها لعبة معقدة، لا يفهمها فقط الخبراء العسكريون والمحللون السياسيون، بل يتابعها أيضًا المواطن العادي بعين القلق، متسائلاً: إلى متى يمكن أن يستمر هذا التوازن؟
الجواب على هذا السؤال يبقى غير واضح حتى الآن، فربما تحتاج المنطقة إلى عوامل وظروف جديدة لتغيير قواعد اللعبة بشكل جذري، عوامل تتجاوز المصالح السياسية الضيقة وتفتح الطريق أمام نوع من الحلول الحقيقية التي يتطلع إليها الناس، وليست مجرد إدارة للأزمات وبشكل متكرر وسمج ،
يتطلب الامر شجاعة سياسية ورغبة في الحوار الحقيقي وتقديم التنازلات المؤلمة من أجل تحقيق سلام يرضي تطلعات شعوب المنطقة. فهل هذه الأطراف مستعدة حقًا للسير في هذا الطريق، أم أنها ستظل تُدير الصراع بما يُبقي على مصالحها الذاتية دون أن تُقدّم الحلول الفعلية، وتبقى شعوب المنطقة وبلدانها حطبا لها .