قسم الصحه

الطبيب الذي داوى العالم من السرطان ومات به

الطبيب الذي داوى العالم من السرطان ومات بهالدكتور فادي نصر.

 وسط القصف والدمار والموت والتشرد، جاء وقع خبر وفاته قاسياً كصوت القذائف التي تسقط ليلاً في بيروت والبقاع والجنوب. كانت ثقل الكلمات بمقدار وطأة الحرب التي نخوضها اليوم، وموجعة وظالمة مثلها أيضاً. أغمض البروفيسور فادي نصر عينيه للمرة الأخيرة في وطن يتخبط بأزماته اللامتناهية. استسلم للسرطان بعد أن كافح سنيناً طويلة لهزيمته في أجساد مرضاه وفي جسده أيضاً.

الابتسامة الباقية

ببسمته المعهودة وبحّة صوته الخاصة، واجه الدكتور نصر معركته المتواصلة مع السرطان. تعرَّف جيداً على هوية العدو الذي يحاربه، وهزمه آلاف المرات في أجساد مرضاه الذين عالجهم. ولكنّه خسر رهانه مع الورم الخبيث في جسده. لم يكن يداوي المرضى كمجرد طبيب وإنما كمريض سرطان يعرف جيداً معنى الألم وحقيقة المرض.

تعرّفتُ إلى الدكتور فادي خلال الأزمة الدوائية التي عاشها لبنان. ارتفع صوته صارخاً في وجه الفساد والذلّ والقهر. أتذكّر جيداً حينما قال لي “نحن أمام كارثة حقيقية”. وطالما تملّكه خوف كبير على مرضاه “لا شيء يمكن أن يحلّ مكان المورفين للتخفيف من آلامهم”.

اشتداد المرض والأزمة

اشتدّت الأزمة أكثر، وتصاعدت معركة نصر مع السرطان كعدو شرس أساسي ومع البلد الذي يحرم مواطنيه من علاجهم. حارب على كلّ الجبهات. عالج مرضاه وخفف أوجاعهم بالدواء والتعزية ورفع المعنويات، وكذلك واجه المرض في جسده  دون أن يبعده عن عمله.

ولم يعتذر يوماً عن أداء واجبه الطبي. وشهد على نجاة حيوات المئات من المرضى، ليعود ذلك الورم الخبيث وينتقم منه بالقتل.

” ما فينا نرجع لورا”، بهذه الكلمات وقف يناشد الدولة والمعنيين للحدّ من معاناة مرضى السرطان خلال اعتصامهم أمام السراي الحكومي. وقف شاهداً على وفاة بعضهم نتيجة عدم قدرتهم على شراء للدواء، فصرخ مرة تلو الأخرى “هناك مرضى عم بتموت لأنو ما معهم حقّ الدوا”.

خسارة كبيرة لا تُعوّض، وأكبر منها لكلّ من عمل معه وعرفه عن قرب. يتحدّث المدير الطبي في مستشفى أوتيل ديو الدكتور جورج دبر لـ”النهار” عن الطبيب والزميل والرفيق منذ أيام الدراسة.

ويقول “جمعتنا مقاعد الجامعة وفرقتنا الاختصاصات الطبية لنعود ونلتقي في المستشفى نفسه. لقد أحبّ الحياة كإنسان يعرف جيداً ما يريده، وهو إيجابي بشكل لا محدود. اتَّسَم بالأمانة في عمله الذي شُغف به إلى اقصى الدرجات. دأب على العمل حتى ساعات متأخرة من الليل، وقد حمل هموم مرضاه أينما ذهب”.

تخصّص في أمراض الدم والسرطان وعاد إلى لبنان ليسطع نجمه كطبيب إنساني قبل كلّ شيء، هكذا بدأت الناس تتعرّف إليه. تمثَّل همّه الوحيد بحسب ما يوضح دبر بأن “يساعد المرضى ويعالجهم، خصوصاً الأشخاص الذين لا قدرة لهم على العلاج. لم يكن يفكر بالمردود المادي، كان هاجسه الوحيد أن يحصل كلّ مريض على علاجه”.

معركة شخصية طويلة

8 سنوات يحارب فيها نصر بصمت وإرادة وعزيمة كبيرة. و لم يسمح لنفسه أن يضعف. إنها شخصيته: إيجابية وهادئة لدرجة التفاني. ولم ينسَ أن يُهيّئ رؤية مستقبلية عن علاجات السرطان لمن سيأتي من بعده.

يستذكر دبر ما أخبره نصر به منذ عام تقريباً “أنا ما بقى مطوّل، لهيك لازم نشتغل كذا شي بالقسم”. وانصبَّ تركيزه الأساسي على تقديم أفضل العلاجات للمرضى ورفع قسم الأمراض السرطانية إلى مستويات عالية.

وفي السنتين الأخيرتين، وفق ما يشير دبر ، “بقي في منزله يتابع حالات مرضاه على الهاتف وينسّق مع زملائه الأطباء لضمان استمراريّة العمل ومساعدتهم في كل احتياجاتهم”.

ويؤكد دبر أن “معركته مع السرطان منذ البداية شرسة لأنّ السرطان لم يكن محدوداً، جاء تشخيص مرضه بعد آلام في بطنه ليتبيّن أنه مصاب بسرطان الأمعاء. ومنذ تلك اللحظة، بدأت معركته المزدوجة مع المرض”.

وفي النهاية كما قال الشاعر محمود درويش “الموت لا يوجع الموتى، الموت يوجع الأحياء”، وجع غيابك سيحمله مرضاك وكلّ من عرفك معهم في رحلتهم الباقية في هذه الحياة. إلى روحك السلام، لقد تركت للبنان إرثاً كبيراً سيبقى حاضراً في المستقبل.