رامي الريس
كاتب وصحافي وأستاذ جامعي من لبنان، وباحث ومترجم، يكتب في القضايا العربية والدولية، يحمل شهادة ماجستير في العلوم السياسية من الجامعة الأميركية في بيروت، وله مشاركات في العشرات من المؤتمرات وورش العمل في لبنان والخارج.
فاتَ أوانُ مناقشةِ ما إذا كان فتحُ جبهة جنوب لبنان في الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 بهدف مساندة جبهة غزة، كما أعلن «حزب الله» يومذاك، قد حقق الأهداف المرجوّة منه، لا سيّما أن الحرب الإسرائيليّة المتواصلة دون هوادة منذ أكثر من عام قد أدّت إلى سقوط ما يزيد على 40 ألف شهيد، والآلة مستمرة، فضلاً عن تدمير القطاع بشكل شبه تام وتحويله إلى منطقة غير قابلة للعيش لسنوات إلى الأمام.
فات الأوان لأن الخشية التي كانت قائمة من توسع الحرب نحو لبنان وعاصمته وضاحيتها الجنوبيّة، بالإضافة طبعاً إلى مناطق الجنوب والبقاع والبقاع الغربي؛ قد أصبحت بمثابة الأمر الواقع، وبات الوضع يحتاج إلى من يوقفه ويضع حداً له، وهو غير متاح راهناً بسبب الدعم الغربي، خصوصاً الأميركي، لإسرائيل في عملياتها العسكريّة ضد لبنان.
ثمّة ملاحظات لا بد من تسجيلها في هذا السياق:
أولاً: على الرغم من «البروباغاندا» الإسرائيليّة المركزة التي يقودها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وعدد من الناطقين باسم جيشه، من أن الحرب هي حرب ضد «حزب الله» وليست ضد لبنان، تثبت الأرقام بصورة يوميّة وبما لا يترك مجالاً للشك أن هذه الرواية غير صحيحة على الإطلاق، والدليل سقوط ما يزيد على 2200 شهيد وأكثر من 10 آلاف جريح (حتى 11 أكتوبر)، في حين سقط في خلال حرب يوليو (تموز) 2006 نحو 1200 شهيد.
وفي هذا المجال، ثمّة تساؤلات مشروعة يحق للبنانيين أن يسألوها، في مقدمها ما يتصل بحق إسرائيل في استباحة بلادهم بالكامل براً وبحراً وجواً، وصولاً إلى قصف أحياء سكنيّة وشعبيّة بأكملها لمجرّد اشتباهها بوجود عناصر أو قياديين من «حزب الله» في محيطها.
ثانياً: نقلت القيادة الإسرائيليّة أهداف الحرب من إعادة سكان الشمال إلى «بيوتهم» إلى إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط. وإذا كانت الحقبات السابقة التي حصل فيها تشكّل الشرق الأوسط الجديد في إطار توزّع نفوذ بين دول وإمبراطوريات متهالكة قد شهدت، رغم مساوئها، توازن قوى معيّناً؛ فإن ما يحدث راهناً يتصل بترسيم خريطة جديدة بمشيئة إسرائيليّة صرفة، وهو يذكر بكلام أميركي سابق عن «الشرق الأوسط الجديد»، الذي لم يكن مشروعاً براقاً بطبيعة الحال.
ولا يمكن إشاحة النظر عمّا نُشر ويُنشر عن انتعاش مشروع إسرائيل الكبرى، ومن ضمنه التوسع نحو جنوب لبنان وصولاً إلى احتلاله واستعماره وبناء المستوطنات، وما نُشر من مقابلة متلفزة لوزير الماليّة الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، جدد فيها الحديث عن «أحلام الأجداد»، يشي بالقليل مما يُخطط له، أو أقله يُفكّر فيه، تيار اليمين الديني المتطرف في إسرائيل.
لقد بات واضحاً أنَّ الصراع في إسرائيل خلال السنوات القليلة الماضية هو بين المتطرفين والأكثر تطرفاً، حتى الأصوات المحدودة التي كانت تنادي بالسلام تكاد تكون قد اندثرت تماماً ولم يعد لها أي تأثير. إسرائيل تخوض حروباً على عدة جبهات منذ أكثر من سنة، وهي المرة الأولى التي تطول فيها الحروب إلى هذا المدى الزمني الطويل مع ما رافقه من سقوط المئات من القتلى في صفوف الجنود والضبّاط في الجيش الإسرائيلي.
لأجل كل ذلك، لن تكون حرب لبنان قابلة للتوقف في وقت قريب، لا سيّما أن إسرائيل تسعى لزرع الشقاق بين صفوف اللبنانيين والتأليب فيما بينهم، وهو ما يتطلب وعياً وصبراً وحكمة في التعامل معه بما لا يؤدي إلى اندلاع نزاعات أهليّة مجدداً في البلد المنشطر على ذاته، الذي تغذيه الانقسامات الطائفيّة والمذهبيّة والولاءات الخارجيّة المتناقضة التي تعكس نفسها في الساحة المحليّة اللبنانيّة.
المطلوب لبنانياً هو الإسراع في انتخاب شخصيّة توافقيّة لرئاسة الجمهوريّة لا يُشكّل انتخابها استفزازاً لأحد، أو يمنح للبعض شعوراً بالغلبة على حساب أي طرف لبناني مهما كانت الظروف الراهنة. حتى لو تمكن أي رئيس من «التسلل» إلى القصر الجمهوري بأصوات مجموعة من النواب، في ظل اعتراض قوى وازنة أخرى، فإنه لن يتمكن من الحكم في ولايته، ليس لأن اللعبة الديمقراطيّة ليست صالحة في لبنان، بل لأن موازين القوى في لبنان لا تسمح بذلك.
هذه التحديات الخطيرة تتطلب مقاربات جديدة، وتبقى الأولوية المطلقة لوقف إطلاق النار.