{الناصرية: ثورة متجذرة ومتجددة ضد الفساد والتبعية}

6

 

تعد مدينة الناصرية، الواقعة في جنوب العراق، من أبرز مراكز الحراك الشعبي في البلاد، حيث تميزت منذ عقود بروحها الثورية ورفضها القاطع للفساد والتبعية. ورغم التاريخ الطويل لهذه المدينة مع الثورات والانتفاضات، إلا أن ما شهدته الناصرية منذ أكتوبر 2019 يمثل ذروة جديدة في مسيرتها النضالية ضد النظام السياسي القائم في العراق بعد 2003.

ثورة تشرين: منطلق جديد للمقاومة

انطلقت ثورة تشرين في أكتوبر 2019 بشكل عفوي من قبل الشباب العراقي الذي عانى طويلاً من التهميش والبطالة وسوء الخدمات. كانت الناصرية في طليعة المدن التي رفعت صوتها ضد الفساد والمحاصصة الطائفية التي أنهكت العراق، مُطالِبةً بوطن حرّ بعيدًا عن التدخلات الخارجية.

تميزت تظاهرات الناصرية بطابعها العنيف في بعض الأحيان نتيجة للقمع الشديد الذي واجهته من قبل القوات الأمنية وبعض الفصائل ، لكن إرادة المتظاهرين لم تنكسر، بل ازداد إصرارهم على مواصلة النضال لتحقيق مطالبهم العادلة. أصبحت ساحة الحبوبي، وسط الناصرية، رمزًا للمقاومة والصمود، وشهدت توافد الآلاف من المحتجين يوميًا للتعبير عن رفضهم للنظام القائم.

فساد مستشرٍ وتبعية قاتلة

لم تكن مطالب الناصريين وليدة اللحظة، بل جاءت نتيجة تراكمات سنوات طويلة من الفساد المستشري في مختلف مؤسسات الدولة. عانت المدينة، كغيرها من مناطق العراق، من تدهور البنية التحتية وانعدام الخدمات الأساسية، بينما تنعم الطبقة السياسية الحاكمة بثروات البلاد على حساب الشعب.

لكن الفساد ليس المشكلة الوحيدة، فقد أدرك المحتجون أن التبعية للخارج، سواء كانت لإيران أو لدول أخرى، هي أحد الأسباب الرئيسية التي أبقت العراق في حالة من الفوضى وعدم الاستقرار. الناصرية، التي تتميز بوعي سياسي عالٍ، رفعت شعارات ترفض كل أشكال التدخل الخارجي وتطالب باستقلالية القرار العراقي. كان المتظاهرون يدركون أن بناء وطن قوي ومستقل يبدأ بتحريره من النفوذ الأجنبي، وخصوصًا النفوذ الإيراني الذي تغلغل في مؤسسات الدولة عبر الأحزاب الموالية له.

جذور ثورية متأصلة

الثقافة الثورية التي يتميز بها سكان الناصرية تعززت على مر العقود، حيث كانوا من أوائل من وقفوا في وجه الاستبداد ومن أشرس المدافعين عن حقوق الشعب العراقي. ورغم القمع الذي تعرضت له المدينة على مر السنين، إلا أن عزيمتها لم تنكسر، بل زادتها هذه التضحيات قوة وإصرارًا على تحقيق التغيير المنشود.

تجدد الثورة

ما يميز ثورة الناصرية هو أنها لم تكن لحظة عابرة، بل حالة نضالية مستمرة. ورغم محاولات الحكومة احتواء الحراك الشعبي بوعود إصلاحية وتغييرات شكلية في بعض المناصب، إلا أن المحتجين في الناصرية لم يقتنعوا بهذه الإجراءات، معتبرين أنها محاولات سطحية لامتصاص غضب الشارع دون معالجة جذور المشكلة.

استمر النضال في الناصرية حتى بعد تراجع الحراك في مدن أخرى. كان واضحًا أن أبناء المدينة لن يقبلوا بأقل من تغيير شامل للنظام السياسي القائم. شعاراتهم كانت دائمًا واضحة: “نريد وطن”، وهو تعبير عن رغبة عميقة في بناء دولة عادلة تستند إلى إرادة الشعب وليس إلى مصالح النخب السياسية والميليشيات.

آفاق المستقبل

رغم التحديات التي تواجه الحراك الشعبي في الناصرية، سواء من قمع القوات الأمنية أو محاولات التصفية السياسية للناشطين، إلا أن آمال التغيير لا تزال حية. شعب الناصرية أدرك أن ثورته ليست مجرد انتفاضة ضد الفساد والتبعية، بل هي معركة طويلة من أجل تأسيس عراق جديد يحترم حقوق جميع أبنائه ويوفر لهم حياة كريمة ومستقبلًا آمنًا.

النضال في الناصرية مستمر، والثورة التي بدأت في تشرين ليست سوى فصل جديد في تاريخ المدينة الطويل من المقاومة. الشعب هنا عازم على المضي قدمًا نحو تحقيق أهدافه، ويدرك جيدًا أن الطريق لن يكون سهلًا، لكنه مصمم على أن النهاية ستكون لصالحه. ففي نهاية المطاف، وكما أثبتت الأحداث، الناصرية مدينة ثائرة لا تهدأ، وثورتها متجذرة ومتجددة ضد الفساد والتبعية.

التعليقات معطلة.