السعي إلى الكمال غاية جميلة ظاهرياً ولا تشوبها شائبة. لكن التوق إلى تحقيق الكمال في جميع مفاصل الحياة، حتى تفاصيلها الصغيرة، يحمل في طياته مشاعر سلبية تدخل في نفس مُتَطَلِّبْ الكمال (perfectionist)، وتؤثر على علاقاته وراحته ونظرته العامة لنفسه.
إضاءة على ملامح مُتَطَلِّبْ الكمال
تتميّز شخصية مُتَطَلِّبْ الكمال بالميل إلى وضع أهداف عالية للغاية أو صارمة أو خالية من العيوب، وفرضها على الذات والآخرين. وقد يتوصل بعض مُتَطَلِّبْي الكمال إلى تحقيق مستويات عالية من النجاح بسبب الأهداف المرتفعة التي يسعون إلى تحقيقها، بينما يعاني آخرون من انخفاض احترام الذات ومشاكل في الأداء اليومي، تؤرقهم حينما يرتكبون أخطاء.
هل من حاجة إلى التذكير بأن الخطأ سمة بشرية أصيلة أيضاً، بل إنها الأقرب إلى الواقع الإنساني، وفق ما تكاد أن تجمع عليه ثقافات البشر ومجتمعاتهم؟
وكذلك يسعى مُتَطَلِّبْ الكمال إلى تحقيقه في مجالات مثل الرياضة، الفن، الإنجازات الأكاديمية، النجاح المهني أو المالي، التنظيم، النظافة، الالتزام بالمواعيد، المظهر الجسدي، العلاقات والأسرة، الالتزام بالقواعد الأخلاقية أو الدينية وسواها. وربما لا نحتاج أكثر من الحدس البديهي لمعرفة مدى المعاناة النفسية التي ترافق ذلك التَطَلُّب.
ولا بدّ من التمييز بين السعي إلى تحقيق درجة عالية من النجاح، وذلك أمر يتضمن الطموح وتقدير الذات والسعادة والرضا عن الحياة، وبين تَطَلُّبْ الكمال المفتقد إلى القدرة على التكيُّف (maladaptive perfectionism). ويشير ذلك إلى أن مُتَطَلِّبْ الكمال إنما يسعى إلى سماع مديح الآخرين، ويمتلك توقعات غير واقعية، وينخرط في حديث سلبي مع الذات؛ إضافة إلى معاناته ضغوطاً من الآخرين، وإحساساً بالذنب. وبالتالي، تظهر مشاعر انخفاض الثقة، وتزَعزُع الراحة الداخلية، والخوف من الفشل، والنتائج السيئة في العلاقات العامة.
وقد بحثت دراسة حديثة عنوانها ” The causal relationship between perfectionism and negative affect: Two experimental studies”، مخاوف مُتَطَلِّبْي الكمال ومدى معاناتهم من تأثيرات سلبية متأتية من ذلك السعي إلى ما يشبه المستحيل.
أُخفِقَ في الوصول إلى الكمال، فما الذي سيعانيه؟
حديث خاص
الدكتوره ساندي الترك- معالجة نفسية وأستاذة محاضرة في جامعة الروح القدس الكسليك
في البحث عن أسباب شخصية مُتَطَلِّبْ الكمال، نجد طريقة التربية منذ الصغر والمحيط الذي نشأ فيه، وربما ثمة عامل وراثي، أو أفكار تبناها بنفسه أثناء مسار حياته. قد تدفع تلك العوامل كلها تلك الشخصية إلى وضع معايير غير واقعية في ذهنه لكنّه لا يعي استحالتها.
ويتحوّل الأمر إلى حالة مرضية حينما يبدأ ذلك الشخص بالتأثير سلباً على علاقاته ومحيطه وعمله وحتى حياته نفسها وصحته النفسية. ولدى وجود ذلك التطلُّب للمستحيل، يرتفع خطر إصابة الشخص ببعض الاضطرابات النفسية كالقلق والاكتئاب، الوسواس القهري وغيرها.
وتتأثّر جوانب متعددة من حياة مُتَطَلِّبْ الكمال. إذ ينتظر من شريكه أو أصدقائه تصرفات وسلوكيات تتناسب مع توقعاته لكنها قد لا تتوافق معهم، فتتقلص علاقاته مع الآخرين. وبشكل مستمر، لا تظهر الراحة على مُتَطَلِّبْ الكمال، ويبدو غير سعيد دائماً بسبب انهماكه في السعي إلى إضفاء الكمال على التفاصيل كلها.
وأحياناً، تنخرط الأسرة في تَطَلُّبْ الكمال، فتلقي على أبنائها أعباء إضافية مثل علامات مدرسية كاملة وسلوكيات مثالية، وهذا يؤثر سلباً على علاقة الأسرة مع أولادها.
وعلى المستوى المهني، يعمل مُتَطَلِّبْ الكمال بشكل إضافي ليصل إلى أهدافه المثالية، ما يتعبه معنوياً، ويدفعه أحياناً إلى المماطلة والتأجيل لإنجاز عمله بشكل مثالي، ويشعر أنه لا يستطيع تكليف أي أحد بأي مهمّة لعدم ثقته بأنّ الآخر سيؤديها باكتمال مثالي. وكذلك لا يغامر مُتَطَلِّبْ الكمال بسبب خوفه من الفشل، ما يحدّ من تطوّره.
وبطرق متنوعة، ينخرط مُتَطَلِّبْ الكمال بمحاولات دائمة للسيطرة، فيما الأمر لا ينجح دائماً في الحياة. وكذلك تغيب عنه المرونة والإحساس بالرضا. ويشعر بالفشل إذا لم يبلغ أهدافه العالية، ويُقَرِّع نفسه بدلاً من نقدها بشكل بنّاء، ما يؤثر على صورته تجاه نفسه وثقته بها. بالنتيجة، يشعر كأنه يركض لكنه متسمّر في مكانه. وقد يؤدي الإجهاد المزمن وإهمال العناية الذاتية إلى زيادة خطر الإصابة بأمراض جسدية كمتلازمة التعب المزمن.
وغالباً ما يُصاب مُتَطَلِّبْ الكمال بالإرهاق والإجهاد الشديد والضيق والقلق.
كيف تتغلّب على تطلُّب الكمال؟
– حاول التوقّف عن هذا السعي حينما تواجه مشاكل بسببه.
– كن واعياً أنّ الأمر ليس سهلاً، ولعلك تعاني مشكلة ما منذ الصغر.
– حاول التقليل من توقعاتك العالية.
– اطلب مساعدة معالج نفسي.
– حاول أن ترضى بالإنجازات الصغيرة.
– حدّد أهدافاً واقعية كي لا تشعر بالإحباط.
– جرّب أشياء جديدة لمساعدتك في التصالح مع ارتكاب الأخطاء.
– مارس اليقظة الذهنية.
– إنظر إلى التحدّيات والتغييرات كفرص للنمو والتعلّم.
– عزّز احترامك لذاتك.
– واظب على الاتصال مع عائلتك وأصدقائك كي يذكروك بصفاتك الإيجابية.
– تحلَّ بالقدرة على تأكيد نفسك بصورة إيجابية، وليس فرضها عنوة على الآخرين.