حنا صالح
عندما أشعل «حزب الله» حرب «إسناد» غزة يوم 8 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، لم يتوقع لحظة أن تودي هذه الحرب بلبنان إلى هذا الدرْك. في 27 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 بوسع تل أبيب أن تعلن، في ضوء اتفاق وقف النار، أنها بمنأى، ولعقود، عن أي «7 أكتوبر» من الشمال، وأنها دمَّرت القدرات البشرية والتسليحية لـ«حزب الله». بالتوازي سقطت سرديات رفعها الحزب يوم أطلق حرب «المشاغلة»، فتم فك الارتباط بغزة وسقط شعار وحدة الساحات، وفشل «الحزب» في منع إسرائيل من الانتصار، عندما وافق على إخلاء جنوب الليطاني وتفكيك بنيته العسكرية أينما وُجدت. لكنه سيكون قادراً على القول إن إسرائيل لم تنجح في تدميره كما وعدت، غير أنه سيكون عاجزاً عن الإجابة عن سؤال أين كان؟ وأين أصبح؟ بعدما خسر قيادته السياسية والعسكرية وسقطت سردياتٌ أغرقَ بها جمهوراً ما زال تحت وطأة مفاجآت الحرب المدمِّرة.
لكنَّ الاتفاق الذي يحقن الدماء ويلبِّي مطلب عموم اللبنانيين وقف القتل العبثيّ والتدمير الممنهَج ومسح القرى والمدن، ينتقص السيادة، خصوصاً مع الإقرار الأميركي بـ«حق» إسرائيل في حرية التدخل العسكري كلما وجدت ما تدَّعي أنه يهدد أمنها، ولن تعجز عن افتعال الأسباب (…) كما يحمل مسّاً خطيراً بحقوق لبنان بأرضه وحدوده المكرَّسة في اتفاق الهدنة عام 1949، مع مؤشرات عن نقض تل أبيب الحدود المرسَّمة والمصادَق عليها دولياً. كما أن البنود المدرجة تحت عنوان آلية تنفيذ القرار الدولي 1701، تُغفل حق عودة النازحين قسراً، وهو حق كان قد أكده القرار الدولي في ثلاثة بنود، الأمر الذي يُظهر نيّات العدو الساعي إلى تحويل جنوب الليطاني إلى حزام أمني، وممنوع على أهل الأرض العودة إليها.
معروف أن الاتفاق لم يمر في أي قناة رسمية. علماً أنه في ظل الشغور، تُعدُّ السلطة التنفيذية الجهة المنوط بها حصراً صلاحية التفاوض، وهذه الصلاحية لا تُجيَّر، وبالتالي فإن مجلس الوزراء لم يطَّلع، والبرلمان في إجازة مفتوحة، وكلاهما مطلوب منه توقيع الاتفاق وإبرامه! لكنَّ الاتفاق الذي يُعيد إلى كنف الشرعية الحدود الشرقية والشمالية للمرة الأولى منذ عقود، يحمل مخاوف من تكرار تجربة اتفاق القاهرة عام 1969، عندما بصم البرلمان على التنازل عن السيادة من دون اطِّلاع على النص بذريعة أنه من أسرار الأمن القومي (…)، فكانت له أخطر التداعيات. والخشية حقيقية من أن يرتِّب هذا الاتفاق تداعيات مستقبلية شبيهة بما تسبب به اتفاق القاهرة. كان المطلوب أن تتولى السلطة التنفيذية المنوط بها حصراً حق التفاوض، وكان على مجلس الوزراء أن يكون في انعقاد دائم وخطٍّ مفتوح مع الجيش لمواكبة وضعٍ غير مسبوق، بجعل الشأن الوطني والسيادة والحقوق أولوية الأولويات. لكنَّ المفاوضات التي تمت تحت الرعاية الأميركية، جرت بين دولة إسرائيل ودويلة «حزب الله»، وكانت أولويتها استمرارية «المقاومة»، أي بقاء السلاح اللاشرعي، وإلا ماذا يعني الحديث عن سحب السلاح إلى شمال الليطاني؟ فما وظيفته غير الضغط على الداخل لفرض الإملاءات؟ وهل يبدِّل ذلك من واقع التسبب بهزيمة عامة؟ أم أنهم في مكانٍ ما يريدون تعويم «مقاومة» فريدة، تسبَّبت في خطر عودة الاحتلال، وخسائر فلكية بشراً وحجراً واقتصاداً؟!
رفض المواطن اللبناني الحرب وطالب بالخروج منها، وهو اليوم محكوم بالأمل أنه بعدما تسبب «حزب الله» في خراب عميم، وأنزلت إسرائيل عقاباً جماعياً باللبنانيين، يعيش مناخاً مغايراً للسائد، مما يشي بأن محاولات تغييب المحاسبة لن تنجح، ولن تمر محاولات إعادة تكوين السلطة بما يخدم أطراف نظام المحاصصة، الذين غطوا اختطاف الدولة، وتعاموا عن جريمة أخذ البلد إلى الحرب المدمرة، فتشاركوا تقديم لبنان لقمةً سائغةً لإسرائيل. إنه وقت التقاء النخب لتحمل المسؤولية، فهناك فرصة لإعادة بناء الدولة التي تحتضن الجميع وتمنع تكرار الكوارث. دولة لبداية مغايرة ولغدٍ آمن نقيض الدولة المزرعة التي انتُهكت زمَنَها الحقوق وساد فيها قانون الإفلات من العقاب.
لقد كان بالإمكان تدارك مخطط جرِّ لبنان إلى هذه النكبة التي لن تتضح كل معالمها إلاّ بعد وقت على سريان وقف النار، والذين كانوا يلهثون بحثاً عن سقف يؤويهم ورغيف ودواء سيكون لصوتهم تأثيره. فعلى مدى عام رفضت «بقايا السلطة» مبادرات وقف النار وتحييد لبنان انطلاقاً من مبدأ فك الارتباط مع غزة. واستمر هذا الموقف إلى ما بعد إعادة احتلال القطاع. أما «الحزب» ففاتَه إدراك حجم كارثة «النداء القاتل» في 17 سبتمبر (أيلول) الماضي، وفاتَه عُمق الاختراق الاستخباراتي والأمني، ليفشل في تدارك حملة الإبادة التي طالت قيادته السياسية والعسكرية وظهر معها أنه خسر الحرب باكراً.
ومع إدراك أن شهية إسرائيل للعودة إلى ارتكاب المجازر وتدمير البلد لا سقف لها ولا حدود، لا مناص عن دور فاعلٍ للسلطة التنفيذية، مع يقظة شعبية ضاغطة، لضمان تنفيذِ القرار الدولي في جنوب الليطاني، وشماله، وفي الداخل، وعلى الحدود، وبما يدعم بسط الشرعية من دون شريك… وبعد اليوم لن ينفع غِنى اللغة العربية في اكتشاف مفردات تُحوِّل الهزيمة مكتملة الأركان إلى انتصار مجيد!