مسرح اللامعقول

2

أنطوان الدويهي

أستاذ جامعي لبناني

بينما تتكرَّس هدنة الستين يوماً في لبنان، أعادتني الذاكرة إلى أجواء رواية «عبور الركام» الصادرة لي في بيروت عام 2003؛ حيث رجع المهاجر بعد طول غياب إلى موطنه فرآه كما هو عليه، بعدما مثل طويلاً في ذاته كما عرفه طفلاً، وكما تخيله في الغياب. كانت عودته عبوراً لركام أرضه، بعد زمن مديد من الحروب والاجتياحات والاحتلالات والاغتيالات، وركام الطبيعة المشوهة بفوضى البناء والعبث الخطير بجمالية المشاهد وتلويثها، وركام الجماعات المتحاربة، المتنافرة، وركام الحرية تحت وطأة نظام وصاية أيقن أنه أطبق على «بلاد الأرز» إلى الأبد.

لكن أين ذلك الركام من ركام اليوم، بعد إقرار هدنة الستين يوماً ومعايشة الدمار الهائل في الجنوب والضاحية والبقاع، وبعد آلاف القتلى وآلاف الجرحى وآلاف المعوقين على مدى العمر، واغتيال المئات من القيادات العليا والوسطى، وتهجير مليون وربع المليون شخص من منازلهم، في حرب لم تدم مرحلتها الحاسمة أكثر من شهرين ونصف الشهر؟

ولم يحلّ هذا الخراب العظيم على بلد مستقر، مزدهر، بل على بلد شهد منذ 5 سنوات، وما زال يشهد أحد أكبر الانهيارات الاقتصادية والمالية في تاريخ الشعوب، ودُمِّر مرفؤه وأجمل أحياء عاصمته في أحد أكبر الانفجارات غير النووية في التاريخ، فانهارت عملته وبناه المصرفية والإدارية والتعليمية والصحية ومجمل مكوناته المادية والمعنوية، وهبط معظم شعبه تحت خط الفقر، وسلكت مئات الآلاف من أدمغته ونخبه وكوادره ومتعلميه طريق الهجرة، ليدخل إليه، بالمقابل، مليونا نازح من محيطه المباشر المضطرب، انتشروا في كل أنحائه.

لا شك في أن نكبة لبنان المتراكمة آخر عام 2024 هي الأشد هولاً في تاريخه، منذ ظهور الكيان اللبناني الأول عام 1861؛ إذا استثنينا مجاعة 1915 – 1918 الكبرى التي قضت على ثلث شعب جبل لبنان.

ماذا بعد؟ هل وصلت هذه البلاد الآن إلى قاع القاع، ولم يعد مِن مستزيد؟ وهل اتفاق الهدنة الأخير بمشاركة أميركية وفرنسية وأممية منطلق الأمل وبداية النهوض؟ معظم الدلائل تشير إلى ذلك. إذا صحّ الأمر، تكون هي المرة الرابعة خلال قرنين من الزمن التي يذهب فيها التاريخ في اتجاه المشروع اللبناني، بعد وصوله في كل مرة إلى ما يشبه الرمق الأخير، عام 1861، وعام 1918، وعام 2005، وعام 2024.

فاتفاق الهدنة هو أكثر من هدنة بكثير. هو على الأرجح بداية ديناميكية دولية متينة لإحياء الدولة اللبنانية، عبر تنفيذ القرارات الأممية التي تحصر السلاح في يد الجيش والقوى الأمنية اللبنانية من دون سواها على كامل الأراضي والحدود اللبنانية، الجنوبية والشرقية والشمالية البرية، والغربية البحرية، وتنزع من التنظيمات والقوى غير النظامية ترساناتها الحربية، ويُعاد بناء المؤسسات اللبنانية على أسس جديدة، يتوافر فيها الحد الأدنى، أو أكثر، من إرادة الإصلاح، ومن الشفافية والمصداقية والفعالية؛ ما يتيح للدول الشقيقة والصديقة مجال الدعم والتعاون، بعيداً عن الفساد العميم الذي ساد منذ ثلث قرن، وازدواجية الدولة والمنظمة المسلحة خارجها، اللذين أوصلا شيئاً فشيئاً إلى قعر الهاوية. على أمل أن تكون هي انطلاقة عبور الركام اللبناني وتخطيه، وسط تحولات المنطقة.

لكن البلبلة الإعلامية التي يشهدها لبنان تحجب هذه الرؤية المتفائلة وتقصيها. على مدى زمني طويل، كانت في مجتمعات المشرق حقيقتان: الحقيقة الإعلامية والحقيقة الفعلية. وكانت الحقيقة الإعلامية تلغي الحقيقة الفعلية. كان الخطاب الإعلامي السائد يكرّس وحدة المجتمع وقوميته ووطنيته والتزامه قضية فلسطين وصون مصالحه وغير ذلك من مقولات، وكان الواقع تحته يضم جماعات غير مندمجة، طائفية ومذهبية وعشائرية وإثنية ومناطقية، تكنّ الحذر والعداء بعضها لبعض. ثم جاء وقت انهار فيه الخطاب الإعلامي وبان فيه الواقع على حقيقته العارية.

أما الآن في زمن كثرة الفضائيات، ومحطات «يوتيوب»، ووسائل التواصل الاجتماعي الفالتة على غاربها، صار هناك عدد لا حصر له من «الحقائق» المتباينة، الحادة التعبير في معظمها، المشوبة أحياناً كثيرة بالعنف، تصعب معها ممارسة العقل النقدي والمنطق، ويستحيل فعل الإقناع. نوع من «مسرح اللامعقول» أو «مسرح العبث» الذي ظهر في الأدب الأوروبي بعد جحيم الحرب العالمية الثانية، التي تركت وراءها، خلال 6 سنوات، 60 مليون قتيل، ودماراً يفوق الوصف. كان «مسرح اللامعقول»، أو «العبث»، تعبيراً عن لا معنى الحياة البشرية ولا جدواها، وكانت حواراته وكلماته لا تفضي إلى شيء… واليوم ترتفع في أنحاء عديدة من لبنان رايات النصر المبين وصور المنتصرين. ترى أي نصر هو؟

التعليقات معطلة.