عبدالله راقدي
مع تنامي ظاهرة انتشال جثث الشباب الغارقين في البحر الباحثين عن حلم العيش في أوروبا وأمريكا، حظيت ظاهرة الهجرة بشقيها الشرعي وغير الشرعي باهتمام الساسة وصناع القرار والأكاديميين ورجال الإعلام. وهذا لما لها من تداعيات على حاضر ومستقبل الدولة والمجتمع. وبالموازاة مع ذلك، برز تحدي تحول المجتمع الجزائري إلى بيئة جذب لتيارات فكرية ومعتقدات دينية وأيدلوجيات قديمة زمانيا وبعيدة مكانيا على غرار السلفية، الأحمدية، الإخوان المسلمين والشيعة. فوجود المجتمع في مثل هذا الوضع يستدعي دراسة انعكاسات هذه الظواهر على أمن الجزائر الثقافي والاجتماعي، ومقاربة كيفية تحصين المجتمع من تأثيراتها.
الجزائر ومسعى الاكتفاء الذاتي الثقافي؟
شهدت جزائر ما بعد الاستقلال صراع فكري بين التيار اليساري الشيوعي والإسلامي لاسيما على مستوى الجامعات. واستمر الصراع متخذا منحى تصاعديا مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران كونها أعطت دفعا لما يسمى بظاهرة “الصحوة الإسلامية” في ثمانينيات القرن الماضي. وهي توجه معادي للشيوعية، والتقت في هذه النقطة وأخرى مع مسعى الرأسمالية من اجل تفكيك هذا القطب ومن ثم السيطرة على العالم. وهي ذات الفترة التي أسست للعودة للدين وللهويات الدينية باعتبار أن الدين خلاص الشعوب من الظلم والتسلط والاستبداد والطغيان ويمكن من إعادة حكم الخلافة القائم على العدالة والحرية.
في مثل هذه الظروف، دشنت الجزائر التحول نحو التعددية السياسية والإعلامية. وهو في تقديري تكريسا لمسعى الانقضاض من أطراف المعسكر الاشتراكي، وهو اخطر امتحان تعرضت له الجزائر في هذا الإطار. هكذا وجد جيل من الجزائريين غشيت بعض الظروف الأليمة رؤيته نفسه في مواجهة مشروع مجتمعي لتيار إسلامي وهابي النزعة يسعى إلى قولبة المجتمع والدولة بما يفي في النهاية إلى قبر فكرة الدولة المناقضة لفكرة الخلافة الإسلامية والعولمة على حد سواء. ولقد ترتب عن هذا المسعى اندلاع نزاع بين الحكومة الجزائرية و الإسلاميين. كان له انعكاسات كبيرة على أداء الحكومة والمجتمع، حيث وفضلا عن الأزمة الاقتصادية الحادة التي لم تساهم البحبوحة المالية في التخفيف من حدتها، فقد تعمقت مشكلة وعي الذات الجزائرية وازداد الغموض بل والتنكر لدى البعض لكل ماهو جزائري مع استمرار الهجمة المنظمة لتيارات فكرية وعقائد تسعى لشغل مناطق فراغ. لقد حرمت مثل هذه الظروف هندسة وصياغة هوية جزائرية خالصة استعلائية مقاومة ولافضة لكل وافد خارجي لاسيما إذا كان متخلف متطرف وفي نفس الوقت مستوعبة مكيفة لكل ماهو مفيد وايجابي. هكذا تهيأت ظروف دفعت فئات من المجتمع إلى البحث عن القيم والأفكار في دهاليز التاريخ.
محاذير الهجرة إلى دهاليز التاريخ
وفر مجتمع الدولة الوطنية الناشئة -وهو المحروم من ماضي إمبراطوري وبدون منظومة مجتمعية مهيأة لإدارة الصراع الفكري وهو الذي يعاني من خواء فكري وروحي متلق لأفكار وعقائد كما لو انها المخلصة من إكراهات العولمة المتوحشة – للوهابية السلفية والإخوان المسلمين وفكر وعقيدة المذهب الشيعي والاحمدية إلخ البيئة المناسبة للتوطين والانتشار . فمنظومة هذه البيئة لا يفرق أهلها بين الوافد والأصيل. الأمر الذي جعل فكر التيار الوهابي السلفي ينتشر بسرعة. ولان الزمن تلعب فيه القوة المرنة تاثيرا بالغا في العلاقات بين الدول والشعوب، فلا غرو ما يحصل في مجتمعنا ليس اعتباطيا ولا بريئا بل أن انتشار الأفكار والقيم تقف ورائها دول توظفها كأدوات من اجل التأثير في مستقبل الدول والمجتمعات، فلاغرو أن ما يأتي من الخارج عبر وسائل الإعلام او عبر بعثات الطلاب إلى مختلف الدول لاسيما في إطار المنح فإنه يسعى في النهاية إلى تكوين فئة واسعة من الجزائريين يسهل التأثير عليهم أو توظيفهم عند الضرورة. وهي أفكار وعقائد في مجملها تتنكر لفكرة الانتماء للأرض والتراب وتحول الولاء للدولة كمسألة معنوية. وعلى مدى أطول ستتوطن هذه الأفكار وتتشكل كنتونات لمجموعة طوائف ومذاهب بولاءات متعددة. وإذا كان هذا هو حال قطاع من المجتمع، فما انعكاسات قرار فئة أخرى منه بالانتقال والعيش في عالم الشمال؟
الاستنزاف المبرمج: الهجرة نحو أقبية الجغرافيا
ولان العالم تحول إلى قرية صغيرة بفعل التطور الرهيب في وسائل الإعلام حيث صورت الغرب الأوروبي والأمريكي بالحلم يسعى كل شخص للاستفادة والعيش في هذه الظروف . هكذا وجد الشاب نفسه وكأنه يعيش في بيئة مجتمعية قاهرة وطاردة للمواهب والكفاءات يتوجب عليه السعي حثيثا لتحقيق حلمه والعيش في بلدان شمال أمريكا واستراليا والاتحاد الأوروبي. ولم يقتصر الأمر على الكفاءات العلمية من خريجي الجامعات من الأطباء والمهندسين والعلماء الذين أكملوا تعليمهم، أسباب بررت للآلاف من هؤلاء بالذهاب في قوارب الموت غير آبهين بمخاطر الغرق والموت. بل ولم يفرطوا في أية وسيلة تسمح لهم بالوصول إلى العالم الأوروبي والأمريكي. ويجدر القول بأنه بقدر ما تحقق الهجرة بنوعيها آمال وطموحات من نجحوا في الوصول إلى هناك فهي خسارة للدولة والمجتمع كونها تحرمها من الاستفادة من كفاءتها وعطائها. لان خلو الأمة من شبابها يعني حرمانها من أهم شروط الإقلاع الاقتصادي ومن ثم النهضة..
وفي النهاية، يجب العمل على نقل المجتمع الجزائري من حالة القابلية اللامشروطة لاعتناق كل ماهو خارجي قديم وعتيق. ومن ثم السعي لاستيعاب مختلف فئات المجتمع لاسيما الشباب. وبعث مشروع مجتمعي ثقافي فكري للأمة الجزائرية مستوعب لأبعاد مكونات شخصية الأمة الجزائرية اللغوية وقيم عقيدتها الروحية السمحة فضلا عن قيم ثورة التحرير الخالدة بإبعادها الإنسانية. وفي حال الفشل في تحقيق ذاك المبتغى سنغدو كطرف مجهول عديم القيمة في معادلات صراع علاقات القوة، وفي النهاية ولاية هامشية لإحدى الإمبراطوريات المستقبلية (الفرس أو الأتراك أو ورثة الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية).