فيصل العساف
حين كانت السعودية تبذل علاقاتها جاهدة لرفع العقوبات المفروضة على السودان، كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منهمكاً في ممارسة هواية الخطابة، المحببة إليه، عبر تطبيق «سكايب» أيضاً، متحدثاً هذه المرة إلى جمع من الإسلامويين السودانيين المحتفلين لمناسبة «دحر» الانقلاب المزعوم، يحضهم على إغلاق مدارس فتح الله غولن، المنتشرة في السودان. كلا المطلبين تحقق على أرض الواقع، فالسعودية بديبلوماسيتها تمكنت أخيراً من رفع العقوبات عن البلد الشقيق الذي يكنّ السعوديون لأهله مودة خاصة، فيما انتصر أردوغان لنفسه من معلمه السابق، فأغلق السودان المدارس!
من هذه الزاوية يمكن فهم النوايا التركية التي تدور حول مصالحها فقط، حتى وهي تتمسح بالدين ونصرة المظالم العربية، ولا يلام ثعلب السياسة التركية، الذي وجد من بني جلدتنا من يحقق له أحلام الزعامة التي يعشق فلاشاتها كثيراً.
في ما يخص جزيرة «سواكن» السودانية، فإنني لا أشك في أن السيد أردوغان اتخذ من هذه البقعة الصغيرة برمزيتها التاريخية، التي مثلت يوماً من الأيام طعنة في خاصرة السودان الحر، منصة للمشاغبة على السعودية وحليفتها الإمارات، التي أغاظه كثيراً وزير خارجيتها الشيخ عبدالله بن زايد بترويجه تغريدة في حسابه في «تويتر»، روَت فصلاً بشعاً من تاريخ العثمانيين.
لا أستبعد ذلك على الإطلاق، بخاصة بعد حجم التخبطات الكبير الذي اعترى السيد الرئيس في أعقابها، فأردوغان قصد إلى تعميق الجرح بالعودة إلى آخر معاقل الاحتلال التركي البغيض في السودان، بدلاً من الاعتذار عن جرائم الأتراك، التي تكبدها السودانيون! إن قراءة ما طرأ أخيراً في سواكن يجب ألا تتجاوز حدود المعقول، ولا حدود الثقة بالحكمة السودانية، وإن بحذر، بالنظر إلى التاريخ الذي اتسمت به سياسة الرئيس السوداني عمر البشير، الذي استمرأ – في ما يبدو – اللعب على جميع الحبال، في براغماتية فجة أحياناً، تنسل من ارتباطها العروبي كما تنسل الشعرة من العجين، قبل أن يعود، متكئاً على سماحة الأشقاء التي تنطلق من مبدأ: «لأجل السودانيين الطيبين، تكرم هفوات البشير»! في المقابل، أليس من حق الرئيس السوداني استغلال الأنا الأردوغانية المتضخمة لما فيه مصلحة بلاده، ما دام سيجني الأموال من هذا التركي الحالم؟ بخاصة أن الدول التي يلوم شعبها عليه هذا التقارب، لا تزال ترتبط بعلاقات ديبلوماسية واقتصادية مميزة مع تركيا «الباغية».
سبق أن فعلها البشير مع الإيرانيين، قبل أن يغلق المراكز الثقافية التابعة لإيران، وصولاً إلى طرد السفير الإيراني، تضامناً مع السعودية، تلاه الانضمام إلى صف التحالف العربي في مواجهة إيران على مسرح اليمن.
الوافد الجديد لا يختلف عن الإيرانيين المنبوذين عقدياً من السودانيين، فالجميع يغريهم التقادم على التبجح، لذلك فإن التعامل معه ينبغي ألا يتخطى حدود الندية، وفي الإطار الذي يعرف معه كل طرف موقعه جيداً، فليس التركي سيداً كما يظن، ولا السودانيون رعايا له، على العكس، هو صاحب حاجة «الفشخرة»، وعليه أن يدفع ثمنها مضاعفاً.
في معادلة «سواكن»، ينبغي التعريج على الدور القطري المهم، بخاصة بعد اجتماع قادة الأركان في كل من تركيا والسودان، وقطر، التي كشف هذا الاجتماع عن امتلاكها رئيس أركان أسوة ببقية الدول، يقود «جحافل» جيشها، التي يبدو أن أميرها لا يثق كثيراً به، الأمر الذي يفسر استعانته بقوة عسكرية تركية تحرس قصره.
إن المتابع تراتبية الأحداث منذ إعلان أردوغان منح السودان حق تطوير الجزيرة الصغيرة له، لا يمكنه غض الطرف عن المحاولات القطرية للإيقاع بين السعوديين والإماراتيين من جهة، والسودان من جهة أخرى، مستغلين سواكن، والاستقبال الرسمي «الحافل»، الذي حظي به الرئيس التركي، وكأن السعودية والإمارات حديثتا عهد بالسياسة، أو أن السودان لا يدرك المطامع التركية!
في هذا الخضم، أتذكر بيتاً لأبي فراس الحمداني، يصدق أن يكون لسان حال السعودية والإمارات، قال فيه: «غفلت عن الحساد، من غير غفلة… وبتُّ طويل النوم عن غير راقد».