لعبة ضاعت… وحلم وجد

2

عزيزة الأحمدي
خبيرة في الصناعات الإبداعية

في طفولتي، كانت لدي لعبة فيديو رقمية لم تفارقني. كانت عالمي الصغير ومصدراً دائماً للفرح والخيال. وفي لحظة غير متوقعة، قررت والدتي إخفاءها حرصاً منها على مستقبلي الدراسي. بحثت عنها لعامين كاملين دون جدوى، وبقيت عالقة بين مشاعر الحزن والغضب. لم أكن أدرك حينها أن تلك اللحظة المفصلية؛ لحظة فقداني للعبتي، كانت بداية شغف عميق سيصبح جزءاً من حياتي ومسيرتي المهنية.

عندما كبرت، تحول شغفي بالألعاب من مجرد متعة طفولية إلى رحلة استكشاف لا حدود لها. دفعني فضولي لتفكيك الألعاب ومحاولة فهم مكوناتها، ثم إخفائها بعيداً عن الأنظار حتى لا أُكشف. تلك المحاولات الطفولية تطورت تدريجياً وأصبحت اهتماماً عميقاً بالألعاب الإلكترونية، ففتحت لي نافذة على عالم مليء بالفرص والإبداع في صناعة تُعد واحدة من أعمدة الصناعات الإبداعية، بقيمة تتجاوز مئات المليارات، وركيزة أساسية في الاقتصاد الإبداعي تسهم في تشكيل مستقبل صناعة الإعلام، ودفع حدود الابتكار والتكنولوجيا إلى آفاق جديدة.

الألعاب الإلكترونية ليست مجرد وسيلة ترفيهية؛ بل هي رافعة اقتصادية وقوة تنافسية للدول. تشير الإحصائيات إلى أن حجم سوق الألعاب العالمي بلغ 202.7 مليار دولار أميركي في عام 2022، ومن المتوقع أن يصل إلى 343.6 مليار دولار أميركي بحلول عام 2028، بمعدل نمو سنوي يبلغ 9.08 في المائة حتى ذلك العام، ما يجعل صناعة الألعاب من أكثر الصناعات نمواً في العالم بفضل قدرتها على الاستفادة من التطورات التقنية المتسارعة وتنوع نماذج أعمالها.

لا يمكن تحقيق صناعة إبداعية مزدهرة دون الاستثمار في الكوادر البشرية، فهي الأساس الذي ترتكز عليه صناعة الألعاب العالمية. العنصر البشري هو المحرك الرئيسي للابتكار، حيث لم يعد اللاعبون مجرد هواة مستهلكين، بل تحولوا إلى لاعبين محترفين، ومطورين، ومبدعين يسهمون في إعادة تشكيل هذه الصناعة المتسارعة النمو.

في منطقتنا العربية، نشهد تحولاً استراتيجياً في هذا القطاع، يتمثل في تأسيس بنية تحتية تعليمية وتشريعية، وإطلاق مبادرات تعليمية وشراكات عالمية تهدف إلى تمكين الشباب بمهارات تقنية متقدمة. هذه الخطوات ليست مجرد تطوير للقطاع، بل رهان على مستقبل يمكن أن يجعل المنطقة لاعباً رئيسياً في المشهد العالمي للألعاب.

الألعاب الإلكترونية أصبحت أدوات تعليمية فعّالة تُستخدم في المدارس لتعزيز مهارات التفكير النقدي والإبداعي، إضافة إلى دورها في تدريب الموظفين من خلال محاكاة بيئات عمل واقعية. تُظهر الدراسات أن ممارسة الألعاب بشكل متوازن ومناسب للعمر تعزز قدرات الأطفال على التعلم والتواصل الاجتماعي، مما يبرز دورها في تنمية المهارات الفكرية والإبداعية. ومع ذلك، يبقى دور الأهل أساسياً في توجيه الأطفال نحو ألعاب تناسب أعمارهم وتساهم في تطوير مهاراتهم، مع الحرص على تجنب أي آثار سلبية على صحتهم النفسية والجسدية. جعلت هذه الاستخدامات المتعددة والابتكارات المستمرة الألعاب واحدة من أكثر الصناعات تأثيراً وتطوراً.

ليس هذا فحسب، بل أصبحت الألعاب الإلكترونية منصة ثقافية عالمية تنقل هوية الشعوب وقيمها المجتمعية، وباتت وسيلة توعوية لمعالجة قضايا عالمية مثل تغير المناخ والتعايش بين المجتمعات، مما يجعلها أداة فعالة لتعزيز الحوار بين الثقافات، وتقديم تجارب تفاعلية تعكس الواقع وتسهم في إيجاد حلول مبتكرة للتحديات المعاصرة.

صناعة الألعاب اليوم تتجاوز كونها مصدراً للإبداع والترفيه لتصبح ركيزة أساسية للاقتصاد الجديد. منطقتنا اليوم أمام فرصة تاريخية لريادة هذا المجال من خلال الاستثمار في المواهب والتكنولوجيا، وخلق شراكات مع المؤسسات العالمية.

لعبتي الضائعة لم تكن مجرد ذكرى عابرة، بل كانت شرارة أشعلت شغفاً تحول إلى مسيرة حياة… لم تكن تلك اللعبة نهاية القصة، بل بداية حلم كبير فتح لي أفقاً لا حدود له نحو المستقبل.

شكراً أمي (رحمها الله) لأنك صنعت الشغف.

*متخصصة في الصناعات الإبداعية)

التعليقات معطلة.