هكذا نكسر حلقة التفكير المفرط!

2

 لماذا يعاني البعض من التفكير المفرط؟

ما دمنا على قيد الحياة، التجارب لا تتوقف: نعبر عن مشاعر الحب والكره، نستثمر وقتنا في الدراسة والعمل، ونحقق النجاح أو نواجه الإخفاق. وبالتزامن مع كل ذلك، نعيش في حال من الترقب المستمر. ننتظر نتائج امتحانات، أو ردوداً على مقابلات عمل.  تمر هذه الأفكار ببعضنا بشكل عابر، فيواصل يومه بشكل طبيعي، في حين يغرق بعض آخر في شباك التفكير المفرط، فيجد نفسه مضطرباً.

تقول هنوف الأحمري، مُعالجة زواج وأسرة مرخصة في ولاية كاليفورنيا، واختصاصية أولى مرخصة في علم النفس الإكلينيكي في السعودية، لـ”النهار”، إن التفكير المفرط ليس عادة سيئة، “بل نتاج تجارب عاطفية ونفسية غير معالجة ونظام داخلي مفرط النشاط يسعى لحمايتك”.

 

 

لماذا يعاني البعض من التفكير المفرط؟
لفهم التفكير المفرط بشكل أعمق، لنتعرف عليه من زوايا مختلفة تعتمد على علاجات نفسية مبنية على أسس علمية:

من منظور العلاج النفسي الديناميكي، يُعتبر التفكير المفرط وسيلة دفاعية يُستخدم فيها العقل لقمع المشاعر العميقة مثل الخوف أو العار أو الحزن، من خلال التركيز على التحليل المفرط بدلاً من مواجهة هذه المشاعر. يمنح التفكير المفرط إحساساً زائفاً بالسيطرة، بخاصة في المواقف التي تبدو غير مستقرة أو تحمل تهديدات عاطفية.

نظرية التعلق تشرح كيف تؤثر تجاربنا مع العلاقات المبكرة على توجهنا نحو التفكير المفرط:
– إذا كنت من أصحاب نمط التعلق القلق، فقد تفكر بشكل مفرط لأنك متيقظ دائماً لعلامات الرفض أو الهجر في العلاقات، ما يجعلك تحلل كل موقف بدقة خوفاً من فقدان الآخر.
– إذا كنت من أصحاب نمط التعلق التجنبي، فقد تستخدم التفكير المفرط طريقة لتجنب التعامل مع المشاعر العاطفية التي لا ترغب في مواجهتها في العلاقات، مفضلاً البقاء على مسافة آمنة.
– إذا كنت من أصحاب نمط التعلق الخائف المتجنب، فقد يكون التفكير المفرط نتيجة لصراع داخلي بين رغبتك في الارتباط العاطفي وخوفك من التعرض للضعف أو الانكشاف العاطفي.

في العلاج بنظام الأسرة الداخلي (IFS)، يتم تفسير التفكير المفرط كأحد الأدوار التي يمكن أن تقوم بها “الأجزاء المديرة” داخل النظام الداخلي للفرد. هذه الأجزاء تعمل حراساً تحاول حمايتك من مشاعر الألم العاطفي المرتبطة بتجارب سابقة مؤلمة. أحد هذه الأجزاء قد يتولى دور التفكير المفرط وسيلة للتعامل مع هذه المشاعر. لتحقيق ذلك، تقوم هذه الأجزاء بمحاولة تنظيم المشاعر بشكل مفرط أو قمع أجزاء داخلية أخرى تُعرف بـ”الأجزاء المنفية”، وهي الأجزاء المجروحة التي تحمل تلك التجارب العاطفية المؤلمة.

 

أما من منظور علاج إزالة التحسس وإعادة المعالجة عن طريق حركة العين (EMDR)، فإن التفكير المفرط يمكن أن يحدث بسبب صدمات غير معالجة. عندما تبقى الذكريات المؤلمة غير مُعالجة، يشعر الدماغ بأنه محاصر، مما يؤدي إلى تكرار الأفكار السلبية أثناء محاولته لفهم الخبرات الصادمة التي مرّ بها.

 

وعليه، ترى الأحمري أن البعض يميل للتفكير المفرط بسبب واحد أو أكثر من العوامل الآتية: التجارب البيئية مثل التربية في بيئة ناقدة أو غير مستقرة، تاريخ الصدمات أي خلل في تنظيم الجهاز العصبي بسبب صدمات غير مُعالجة، السلوكيات المكتسبة أي عندما يُنمذج التفكير المفرط أو يُعزز في العلاقات المبكرة مع أحد الوالدين أو كلاهما أو مقدمي الرعاية.

 

“أسد خيالي” يطاردك
لمعرفة كيفية إدارة التفكير المفرط، ينبغي إدراك تاثيره على الجهاز العصبي. عندما تفكر بشكل مفرط، يشبه الأمر أنك تتصرف كما لو أن أسداً خياليا يطاردك. الأسد غير موجود في الواقع، لكن عقلك يتعامل معه كأنه خطر حقيقي، وفقاً للأحمري.

يدخل جهازك العصبي في حالة فرط استثارة، ما يجعلك في حالة تأهب مفرط، مستعداً للهرب أو القتال في أي لحظة. لكن المشكلة أن هذا “الأسد الخيالي” لا يختفي، لأن عقلك يظل عالقاً في التفكير في جميع السيناريوهات الممكنة لمحاولة حماية نفسه من هذا التهديد غير الموجود. هذا الجهد العقلي يستنزف طاقتك تدريجاً، ويُبقي جهازك العصبي في حالة توتر وإجهاد دائمين، حتى وإن لم يكن هناك خطر حقيقي يهددك.

مع استمرار هذا الاستنزاف، قد يصل جهازك العصبي إلى مرحلة الخمول العصبي كوسيلة لحماية نفسه من الإنهاك. عندها، تبدأ بالشعور بالإرهاق الشديد، أو الانفصال عن مشاعرك، أو حتى بالخدر العاطفي.

التفكير المفرط هو محاولة من دماغك لحمايتك، كأن عقلك يحاول الاستعداد لكل الاحتمالات، لكن الفائدة تتضاءل عندما لا يكون هناك خطر حقيقي. يشبه الأمر  كما لو أن الأسد ما زال يطاردك، حتى بعد أن اختفى تماما. جهازك العصبي يستمر في إطلاق الإنذارات وتحفيزك على الهروب أو المواجهة، رغم أن الخطر لم يعد موجوداً.

لتخفيف التفكير المفرط، تخيل أنك توقفت عن الهرب من الأسد وجلست للحظة بهدوء، ونظرت حولك لتدرك أنه لا يوجد أسد. الهدف هنا هو تذكير جهازك العصبي بأنك في أمان الآن، وأن بإمكانك العودة للحاضر بثقة وهدوء.

 

خطوات قصيرة المدى لإدارة التفكير المفرط
تقنيات التمركز: ركّز على الحاضر باستخدام حواسك. أذكر خمسة أشياء تراها، أربعة أشياء تلمسها، ثلاثة أشياء تسمعها، شيئين يمكنك شمّهما، وشيئاً يمكنك تذوقه. هذا التمرين يساعدك على العودة إلى اللحظة الحالية ووقف دوامة التفكير المفرط.

تسمية التفكير المفرط (نظام الأسرة الداخلي IFS): لاحظ الجزء الداخلي الذي يدفعك للتفكير المفرط وامنحه إسماً أو وصفاً يساعدك على التعرف عليه. ثم ابدأ بالتواصل معه بلطف، كأن تقول: “يبدو أن جزءاً مني يشعر بالقلق”. تعامل مع هذا الجزء بتعاطف كأنه طفل خائف يحتاج إلى التطمين والرعاية، مما يساعد على تقليل حدته واستعادة شعورك بالهدوء.

تمارين التنفس: جرّب التنفس الصندوقي. استنشق لمدة 4 ثوانٍ، احبس أنفاسك لمدة 4 ثوانٍ، ازفر لمدة 4 ثوانٍ، وكرر. هذا يساعد على تهدئة جهازك العصبي.

تحديد وقت للقلق: خصص وقتاً محدداً (10 دقائق) للتفكير في مخاوفك، ثم توقف عن التفكير بمجرد انتهاء الوقت وركز على نشاط آخر.

الحركة الجسدية: قم بأنشطة لطيفة مثل المشي أو التمدد. التفكير المفرط قد يجعلك منفصلا عن جسمك، لذا تساعد الحركة على إعادة التواصل مع الحاضر.

خطوات طويلة المدى لمعالجة جذور التفكير المفرط

يمكن التوجه للعلاج النفسي المبني على أسس علمية لمعالجة الأسباب الجذرية للتفكير المفرط، مثل:

علاج إزالة التحسس وإعادة المعالجة عن طريق حركة العين (EMDR): يساعد في معالجة الذكريات المرتبطة بالصدمات التي تُبقي العقل في حالة تفكير مفرط. من خلال إعادة معالجة هذه الذكريات، يمكنك تقليل تأثيرها العاطفي ووقف الحلقات المتكررة من التفكير السلبي، ما يُعيد الشعور بالهدوء والسيطرة.

العلاج النفسي الديناميكي: يساعد على استكشاف التجارب المبكرة والمشاعر غير المحلولة التي تغذي التفكير المفرط. من خلال فهم الروابط بين هذه التجارب والأفكار الحالية يمكن معالجة الأنماط المتكررة واستعادة التوازن العاطفي.

علاج نظام الأسرة الداخلي (IFS): يساعد في فهم الأجزاء المختلفة داخل نفسك، مثل “المدير” الذي يدفعك للتفكير المفرط. من خلال بناء علاقة تعاطف مع هذا الجزء وفهم نياته في حمايتك، يمكنك الوصول إلى الأجزاء الأعمق التي تحمل الألم الناتج من الخبرات الصعبة أو الصدمات. هذا يقلل من حدة التفكير المفرط ويُعيد الى جهازك العصبي شعور التوازن والأمان.

تختم الأحمري بالقول: “التفكير المفرط وسيلة يستخدمها عقلك لحمايتك من المشاعر المؤلمة أو المخاطر المتوقعة، لكنه غالباً ما يكون نابعاً من جروح أو صدمات غير معالجة. وباستخدام خطوات قصيرة المدى مثل تقنيات التمركز وتمارين التنفس، يمكنك تهدئة جهازك العصبي. أما التشافي العميق فيتطلب استكشاف الجذور العاطفية عبر العلاج النفسي. مع الدعم والرعاية الذاتية، يمكنك تقليل التفكير المفرط واستعادة السيطرة على حياتك”.

التعليقات معطلة.