يكثر الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الزعم أن الناخبين في 5 تشرين الثاني / نوفمبر الماضي منحوه تفويضاً كاسحاً كي “يعيد أميركا عظيمة مرة أخرى”. وبواسطة هذا الادعاء، كوّن النتائج التي حصل عليها في مواجهة المرشحة الديموقراطية كامالا هاريس، وقد أتت أقل من 50 في المئة.
يوظف ترامب ما يراه فوزاً كاسحاً، ليضفي الشرعية على إعادة تشكيل الولايات المتحدة ومؤسساتها من الداخل، بحيث يقضي على “الدولة العميقة”. وهذه عملية تعهد بها لقطب التكنولوجيا وحليفه المقرب إيلون ماسك بعدما ولّاه وزارة الكفاءة الحكومية.
ماسك مخول النظر في تركيبة كل وكالة فيديرالية ومدى مواءمتها مع توجهات ترامب في خفض الإنفاق الفيديرالي، وفي طرد الموظفين الموجودين لمصلحة آخرين موالين لترامب.
وباشر ماسك مهمة إغلاق الوكالة الأميركية للتنمية الأميركية، التي تبلغ موازنتها 44 مليار دولار سنوياً، أي نحو واحد في المئة من مجمل الموازنة الفيديرالية.
أسس الوكالة الرئيس الراحل جون كينيدي عام 1961. ومذاك، تؤدي دوراً رئيسياً في السياسة الخارجية الأميركية، وتعتبر واحدة من أقوى أدوات واشنطن للتأثير العالمي، وقد منحت مليارات الدولارات على شكل مساعدات إنمائية للدول المحتاجة مع تعزيز الحكم والشفافية والاستقلال الاقتصادي.
ومنذ إطلاق الصين مبادرة الحزام والطريق في أكثر من مئة دولة في العالم، كانت الولايات المتحدة تستخدم وكالة التنمية لمواجهة النفوذ الصيني. وبإغلاق الوكالة، تخسر واشنطن ورقة رابحة عملت طوال عقود على تعزيز الحضور الأميركي في مناطق واسعة من العالم.
وستجد دول كثيرة في العالم نفسها الآن أمام خيار واحد للحصول على المساعدات، متمثلاً في الصين التي لن تتوانى عن الاستفادة من الفرصة الجيوسياسية المتاحة لها بفعل إغلاق الوكالة الأميركية.
ولفتت مجلة “ذا هيل” الأميركية في مقال عن الموضوع، إلى أن “إغلاق الوكالة الأميركية للتنمية الدولية هو أكثر من مجرد قرار يتعلق بالموازنة، فهو يشير إلى تراجع أميركي عن القيادة العالمية. لقد كانت المساعدات الخارجية منذ فترة طويلة أداة للمشاركة الديبلوماسية، ما سمح للولايات المتحدة ببناء تحالفات وتعزيز حسن النية وتعزيز الاستقرار. وعززت شراكات الولايات المتحدة وحافظت على نفوذها في المناطق التي يكون فيها الوجود العسكري المباشر غير ممكن أو غير مرغوب فيه”.
ويلجأ ترامب اليوم إلى استخدام التعرفات الجمركية، وسيلة لإخضاع دول العالم، موجهاً اللوم إلى أسلافه، عما يعتبره الإفساح في المجال أمام هذه الدول لاستغلال أميركا تجارياً وتحقيق فوائض في اقتصاداتها على حساب الولايات المتحدة.
النمط الجديد من السياسة الخارجية الذي ينتهجه ترامب قائم على الإكراه الاقتصادي وليس على تقديم المساعدات. وكان أول قرارات الإدارة الجديدة تجميد المساعدات الخارجية التي تمنحها أميركا لعشرات الدول في العالم، مستثنية فقط إسرائيل ومصر.
في يد ترامب عصا غليظة هي التعرفات الجمركية التي ستشعل حرباً تجارية على نطاق واسع في العالم، ولا تستثني أحداً، من الصين إلى اليابان والاتحاد الأوروبي والشرق الأوسط.
لا يريد ترامب التورط في حروب خارجية، وقد وجد البديل في التعرفات للضغط على الدول التي يرى أن سياساتها لا تتلاءم مع السياسة الأميركية.
ومع ذلك، لن يلبث الأميركيون والعالم أن يكتشفوا الخطأ في نهج ترامب، لأنه يعزز على المدى البعيد القوى المنافسة للولايات المتحدة وفي مقدمها الصين، بوصفها القوة الاقتصادية الثانية في العالم القادرة على منح القروض والتسهيلات التجارية للدول التي ستعاني انقطاع المساعدات الأميركية، وترى نفسها في أمسّ الحاجة إلى من يمد لها يد العون.