أطلق الرئيس الأميركي دونالد ترامب زلزالاً جيوستراتيجياً حين أعلن في 4 شباط/ فبراير الجاري، بحضور رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، خطة تقوم بموجبها الولايات المتحدة بالسيطرة الكاملة على قطاع غزّة، على أن يتمّ إجلاء السكان نحو مصر والأردن وبلدان أخرى. قرأ -من دون أن يرفّ له جفن- عناوين عامّة لورشة من شأنها الانقلاب على الشرق الأوسط. انتهى رجل أميركا القويّ من تلاوة فتواه، فانهالت عليه ردود عواصم المنطقة رافضة مستنكرة، وبدا في لهجاتها حزم غير مسبوق.
تصدّرت السعودية مواكب ذلك الحزم ببيان صدر فجراً في الرياض بعد أقلّ من ساعة من “فرمان” واشنطن ذلك. تتالت ردود الفعل من القاهرة وعمّان وأبو ظبي وبقية العواصم القريبة والبعيدة شاجبة مبدأ “الترانسفير”، مستنكرة مشروعاً يقوّض حلّ الدولتين، ورافضة تقاطعاً أميركياً إسرائيلياً لفرض أمر واقع من خارج سياق المواقف التاريخية الأميركية نفسها، قبل الحديث عن الثوابت الأممية والدولية في مقاربة المسألة الفلسطينية وخيارات حلّها.
وفيما اشتدّ الجدل بشأن جدّية هذه الخطّة من عرضيتها، فإن كل الأطراف المعنيّة، الفلسطينية والعربية والإقليمية والدولية، تعاملت مع الحدث بصفته سابقة مرفوضة وجب إسقاطها أياً كانت مرامي ترامب وأهداف مناوراته. ولئن بدا الرئيس الأميركي مفرط الثقة بمشروعه، مبالغاً في العزم على تنفيذه، فإن مستشار الأمن القومي مايكل والتز، الذي يمثّل مؤسسة قرار لا منبراً شعبوياً تجوز له ممارسة أيّ شطط، قال في اليوم التالي لتصريح رئيسه إن “مقترح الرئيس الأميركي يهدف إلى الضغط على الدول العربية المجاورة لغزة من أجل التوصل إلى حلول أخرى”.
بدا الرجل يرسل تفسيرات أخرى مواربة لما صدر عن ترامب في البيت الأبيض. استنتج والتز ما أطلقته عواصم المنطقة من رسائل مضادّة. بدا كأنه يتوسّل خططاً بديلة تسقط خطّة ترامب – نتنياهو، وتعيد النقاش إلى السكّة التقليدية في التعامل ما بين واشنطن وحلفائها في المنطقة. ذهب العاهل الأردني المللك عبدالله الثاني إلى البيت الأبيض في 11 شباط الجاري، بعد أسبوع من إعلان ترامب، ليكرّر أمامه، في المعلن والمغلق، ما كان ردده طوال 25 عاماً، على حدّ قوله قبل أيام، من رفض للتهجير ولفكرة “الأردن الوطن البديل”.
أحال الملك الأردني في واشنطن منافذ الحلّ على خطّة بديلة تعدُّها مصر. بدا أن المنطقة أوكلت القاهرة الدفع بخطّة تلاقي تفسيرات والتز، وتقطع الطريق على اجتهادات ترامب. وبدا أيضاً أن مصر انخرطت في ورشة سياسية مالية هندسية لإعداد قطاع غزّة لما بات يعرف بـ”اليوم التالي”. وبدا أن الخطّة تحتاج إلى دعم عربيّ شامل استدرج الدّعوة إلى قمّة عربية في 27 من هذا الشهر، وتعديل موعدها إلى 4 آذار/ مارس المقبل “لضمان أوسع مشاركة وإجماع”. وثابت الخطّة وعنوانها الأول: إعمار القطاع من دون تهجير سكانه.
تتدحرج المواعيد خلال الأيام المقبلة لإحداث تحوّل يقطع بلادةً في اجتراح أفكار تنهي حالة المجهول التي تحيط بمصير غزّة. تحمل القاهرة، الجمعة، خطّتها لقمّة مصغرة تجمع قادة دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن في الرياض. والأرجح أن القمّة المصغّرة، التي توسّعت من 5 إلى 8 دول، تصادق على مشروع له جوانبه المالية، إضافة إلى تلك اللوجيستية والإدارية الأمنية، فيما القمّة الشاملة تحوّل خطّة مصر إلى خطّة عربية، وتوفّر إجماعاً سياسياً على مقررات يُراد لها أن تكون فاعلة واضحة، توجّه رسالة المنطقة إلى العالم عامة، وإلى إدارة ترامب في واشنطن خاصة، بشأن ما هو حلال وحرام في ما بات مرتبطاً بالأمن الاستراتيجي لمصر والأردن ولمستقبل المسألة الفلسطينية.
لا تقبل إسرائيل والولايات المتحدة أيّ إدارة للقطاع تكون حركة “حماس” جزءاً منها. لن تكون الخطّة المصرية بعيدة عن هذا المعطى. والظاهر أن “حماس” نفسها لن تكون بعيدة عن هذا التحوّل. تطلق الحركة مواقف جديدة مفاجئة بوضوحها بشأن استعدادها للنأي بنفسها عن أيّ انخراط في إدارة للقطاع “تحقق مصالح الغزيين” على رغم أن شكوكاً تحيط بقدرة الحركة على إطلاق موقف موحّد يتجاوز صراع الأجنحة المحتمل في داخلها. كان الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، قد أطلق قبل أيام نداءً يلبس إيحاءات القاهرة، نصح فيه الحركة بـ”التنحّي” عن الإدارة الموعودة لقطاع غزّة. وإذا ما كانت خطّة مصر، التي يحملها الرئيس عبد الفتاح السيسي، تطمح إلى معادلة براغماتية عقلانية يختلط فيها السياسي بالهندسي بالمالي، فإن مآلات السعي العربي العام تجتهد لإعادة غزة إلى فلسطينيّتها، وتحت سقف مصر، وفي داخل الحاضنة العربية الكبرى.