د. خالد الحاج
منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية الأخيرة على “حزب الله”، كانت إسرائيل تمتلك فرصة ذهبية لتحقيق هدف استراتيجي طالما سعت إليه: إضعاف الحزب إلى الحد الذي يجعله غير قادر على تهديد أمنها. فخلال هذه الحرب، نجحت إسرائيل في توجيه ضربات موجعة للبنية التحتية العسكرية للحزب، واغتيال عدد كبير من قادته وقتل الآلاف من مقاتليه. كذلك تمكنت من تحقيق خروق أمنية وتقنية غير مسبوقة في صفوفه، إذ فجرت آلاف الأجهزة المستخدمة في الاتصال والتنسيق، ما أدى إلى تعطيل شبكاته اللوجيستية والاستخبارية.
ورغم كل هذه النجاحات، فوجئ المراقبون بقرار الولايات المتحدة الضغط على إسرائيل لوقف الحرب، وفرض هدنة قسرية، في وقت كان يمكن إسرائيل استكمال معركتها حتى تحقيق نصر حاسم. فما الذي دفع واشنطن إلى اتخاذ هذا القرار؟ وما هي العوامل التي جعلت الولايات المتحدة تفضل الإبقاء على “حزب الله”، رغم كونه تهديدًا دائمًا لإسرائيل وحلفائها في المنطقة؟
لفهم هذه الخطوة، يجب أولًا تحليل السياسة الأميركية التي تقوم على مبدأ “التوازنات”، وهو نهج ينعكس في سياساتها الداخلية قبل أن يتجلى في سياستها الخارجية. فالولايات المتحدة التي تخوض مفاوضات مع إيران حول الاتفاق النووي، تحتاج إلى إبقاء “حزب الله” أداة مساومة في هذا الملف. لطالما كان لأي اتفاق بين واشنطن وطهران بُعدان: معلن وسري، حيث تسعى أميركا إلى كبح الطموح النووي الإيراني مقابل تنازلات إيرانية أخرى.
ترى واشنطن أن “حزب الله” ورقة يمكن استخدامها للضغط على إيران في مفاوضات الاتفاق النووي، ولهذا السبب لا ترغب في القضاء عليه نهائياً. الهدف الأميركي هو الوصول إلى صفقة تضمن تقليص النفوذ الإيراني الإقليمي مع السماح لطهران بالحفاظ على قدر من قوتها يتيح لها التفاوض بدلًا من الانهيار الكامل.
في هذا السياق، حددت إدارة الرئيس دونالد ترامب مجموعة من المطالب الرئيسية من إيران، شرطا للتوصل إلى اتفاق نووي جديد، أبرزها:
1. ضمانات نووية: تطالب الولايات المتحدة بتعهدات واضحة من إيران بعدم السعي إلى امتلاك أسلحة نووية، مع فرض قيود صارمة على برنامجها النووي لضمان طابعه السلمي.
2. الحد من برنامج الصواريخ الباليستية: تسعى واشنطن إلى فرض قيود على تطوير الصواريخ الباليستية الإيرانية وإنتاجها، وخصوصا تلك القادرة على حمل رؤوس نووية.
3. وقف دعم الجماعات المسلحة: تطالب الولايات المتحدة إيران بإنهاء دعمها المالي والعسكري للجماعات المسلحة في المنطقة، بما في ذلك “حزب الله”، بهدف تقليص نفوذها الإقليمي.
4. ضمانات أمنية واقتصادية: تسعى واشنطن إلى الحصول على التزامات من إيران تتعلق بأمن حلفائها في المنطقة، بالإضافة إلى ترتيبات اقتصادية تضمن استقرار أسواق النفط العالمية.
قد تسمح الولايات المتحدة، لحظة توقيع الاتفاق النووي الجديد، بتمرير بعض الأموال الإيرانية إلى “حزب الله”، ولكن ضمن شروط محددة، مثل استخدامها في النشاط السياسي وليس في العمل العسكري. وبهذا، تتمكن واشنطن من تحقيق معادلة تُجبر إيران على تقديم تنازلات كبيرة، وفي الوقت نفسه، تضمن استمرار التوازنات الطائفية التي تراها ضرورية للحفاظ على استقرار المنطقة وفق رؤيتها.
الولايات المتحدة لن تقبل مطلقا بسيطرة طرف واحد على المنطقة من دون وجود قوة موازنة. ولذلك، فإنها تتدخل حين تجد أن ميزان القوى يميل إلى طرف دون الآخر، وهو ما يفسر تدخلها المفاجئ لإيقاف الحرب الإسرائيلية على “حزب الله”، رغم التقدم الإسرائيلي الكبير. من منظور واشنطن، استمرار الحرب إلى نقطة الانهيار الكامل للحزب كان سيعني إعادة رسم موازين القوى في المنطقة بطريقة غير محسوبة، وهو ما لا تريده.
وتاليا، فإن وقف الحرب بالتأكيد لم يكن حماية للحزب بقدر ما كان قراراً استراتيجياً أميركياً للحفاظ على التوازنات الإقليمية، وضمان استمرار النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط عبر التحكم في حدود الصراع بين اللاعبين الأساسيين.