وللتذكير، فإنّ ليلة 17 تشرين الأول/أكتوبر كانت بمثابة حلم، خرج فيه اللبنانيون جنباً إلى جنب بكل طوائفهم منتفضين على فرض ضريبة الـ6 دولارات على المكالمات الصوتية المتبادلة، عبر “واتساب”، ومطالبين بالتخلص من الطبقة السياسية “الفاسدة برمتها”. نجح هذا الحراك في أماكن كثيرة وأخفق في أماكن أخرى، والنتيجة أن هذا الحلم لم يدم طويلاً، بعد أن دخلت السياسة مجدّداً على الخطّ، وزادت أزمة تفشي وباء كورونا والانهيار الاقتصادي، وكذلك انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب/أغسطس، الأمور تعقيداً.
تعود اليوم إلى ذاكرتي البلبلة التي أثارها تصريح عون. إلّا أن صاحب الدعوة مختلف هذه المرّة وكذلك المدعوّين. أصحاب الدعوة هم بعض المواطنين اللبنانيين الذين ما عادوا يجدون في لبنان مساحة لهم ولغيرهم. أمّا المدعوّون فنحن!
حقيقة، وإن نظرنا في أحوال البلد منذ أكثر من 5 سنوات (حتى لا نقلّب مواجع السنوات السابقة)، يتبيّن لنا أن ما من أحد يعجبه ما وصلنا إليه، وإن أردنا تعداد ما لا يعجبنا فيه، وقسّمنا مقوّمات البقاء ومقوّمات المغادرة في خانتين، فلا داعي للاعتراف لمن ترجح الكفة! فالظروف كلّها بدت وكأنّها تهيئ لاتخاذ قرار ترك لبنان.
من يدخل صفحات بعض الناشطين، ويتصفّح التعليقات، يشعر أن مزاداً علنياً قد فتحه أحدهم لبيع هذا البلد، لا يهمّ “الثمن” ولكن المهمّ من يثبت للآخر أن “المشتري” من طرفه.
منذ أيام مُنعت طائرة إيرانية من الهبوط في مطار بيروت، على خلفيّة تهديدات إسرائيلية باستهداف مدرج المطار. تبع قرار المنع قطع طرقات ومواجهات بين عدد من الشبّان والجيش اللبناني وكذلك الاعتداء على دورية تابعة لـ”اليونيفيل”، خرجت أصوات تطالب الشبّان هؤلاء بـ”المغادرة إلى إيران أو العراق أو أي بلد آخر يشبههم”. والمفارقة أن “حزب الله” وكذلك حركة “أمل” استنكرا تلك التحرّكات قبل توجيه دعوة رسميّة للتظاهر على طريق المطار.
ويوم أمس، ظهرت إحدى الواصلات من خارج لبنان إلى مطار بيروت رافعة صورة الأمين العام الأسبق لــ”حزب الله”، السيد حسن نصرالله، في مقطع فيديو وهي تخاطب المتواجدين بأن “من يأخذ إملاءاته من إسرائيل ليس له مكان في لبنان”. وبين من زعم أن الشابّة مُنعت من رفع الصورة ومن زعم أن سبب المنع كان وضع العلم الأميركي على أرض المطار، كانت النتيجة واحدة “يلي مش عاجبه يهاجر”.
وفيما تردّد أن الشابّة التي ظهرت في الفيديو، وصلت إلى بيروت عبر طائرة تابعة للخطوط الجوية العراقية، حملت على متنها مواطنين لبنانيين علقوا في إيران نتيجة رفض الحكومة اللبنانية استقبال طائرات تابعة لشركات الطيران الإيرانية على اختلافها بعد التهديدات الإسرائيلية، ظهر في مقطع فيديو آخر، شابّ لبناني يحمل صوراً للرئيسين جوزف عون ونواف سلام وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، ويقول “هيدا مطار رفيق الحريري الدولي… واللي مش عاجبو هوّي يفلّ عإيران”.
حين نسأل عن سبب اختلاف المشهد اليوم عن مشهد التضامن والاحتضان الشعبيّ الذي ظهر خلال الحرب الإسرائيلية المدمّرة الأخيرة، لأهالي الجنوب والضاحية والبقاع، وبالرغم من بعض الأصوات التي عكّرت هذا التضامن، لا نجد جواباً يبرّر الاقتتال الحاصل على الشاشات وفي مواقع التواصل.
على ماذا نتقاتل؟
في المحصلة، يبدو وكأن هذا البلد الذي لم ينصفه القدر جغرافياً، تحوّل إلى “قطعة أرض” مستباحة بتسليم كامل من معظم مواطنيه. بل وأن مساحة 10452 كيلومتراً مربعاً ما عادت تتسّع للجميع.
ولو أجرى كل منّا مراجعة ذاتية بعيدة عن المزايدة والمكابرة والإنكار لوجدنا أن “قطعة الأرض هذه” ما عادت تستحقّنا جميعاً.