بغداد ودمشق: من حكم البعث إلى حكم الإسلام السياسي—وحدة الدين وانقسام المذاهب

6

 

 

 

على مرّ العصور، لم تكن العلاقة بين بغداد ودمشق مجرد علاقة بين عاصمتين لدولتين متجاورتين، بل كانت تجسيدًا لصراع أعمق بين رؤى سياسية متباينة، تغذيها المصالح الإقليمية والدولية. فمنذ أن أصبحت دمشق عاصمة للخلافة الأموية، بينما ظلت بغداد معقلًا للتمرد العباسي، بدأ الصراع يأخذ طابعًا ممتدًا عبر الأزمنة، يتلون بطبيعة القوى المسيطرة داخليًا وخارجيًا.

وفي العصر الحديث شهدت بغداد ودمشق عقودًا من الحكم البعثي، حيث كان الفكر القومي هو الإطار الأيديولوجي الحاكم لكلا البلدين. وعلى الرغم من وحدة الأيديولوجيا، لم تتمكن العاصمتان من تحقيق تقارب سياسي حقيقي، بل دخلتا في صراعات مستمرة وصلت إلى حد العداء الصريح، كما كان الحال خلال الحرب العراقية-الإيرانية.
وبعد انهيار حكم البعث في العراق عام 2003، وسقوط نظام الأسد عام 2024، وجدت كل من بغداد ودمشق نفسيهما تحت حكم تيارات الإسلام السياسي، لكن بنسختين متناقضتين: التطرف السني في دمشق، والتطرف الشيعي في بغداد. وهنا تظهر مفارقة لافتة:
تحت حكم البعث، لم توحّد الأيديولوجيا القومية البلدين، بل مزّقت العلاقة بينهما بسبب المصالح والصراعات الإقليمية.
واليوم، تحت حكم الإسلام السياسي، لم ينجح الدين المشترك في تحقيق التقارب، لأن المذاهب فرّقت بين الطرفين أكثر مما جمعتهم الأيديولوجيا القومية سابقًا.

من البعث إلى الإسلام السياسي: اختلاف الأيديولوجيا واستمرار الانقسام
خلال حكم البعث، كانت الدولتان تدّعيان أنهما علمانيتان، رغم أن السلطة بقيت عسكرية-حزبية محصورة في فئة حاكمة محددة. لم يكن الصراع بين بغداد ودمشق صراعًا عقائديًا بقدر ما كان صراعًا على النفوذ والهيمنة في العالم العربي. وبينما رفعت الأنظمة البعثية شعارات الوحدة، كانت كل دولة تسعى للانفراد بالقرار العربي.
أما اليوم، فقد تبدّل المشهد، لكن الصراع بقي قائمًا . فبدلًا من أن يكون التنافس بين بعث العراق وبعث سوريا، أصبح بين تيارات إسلامية شيعية متطرفة تحكم بغداد، وأخرى سنية متشددة تسيطر على دمشق. الإسلام السياسي الذي يفترض أن يوحد الأمة أصبح أداة للفرقة، تمامًا كما كان الحال مع البعث.
في بغداد، هيمنة الأحزاب الشيعية الموالية لإيران جعلت العراق جزءًا من محور إقليمي مرتبط بطهران، مع تهميش كبير للمكون السني، ما أدى إلى اضطرابات وصراعات داخلية متكررة.
في دمشق، صعود الفصائل السنية الجهادية، بعد انهيار النظام البعثي، أدى إلى نموذج آخر من الحكم الديني المتشدد، قائم على رفض النفوذ الإيراني والشيعي في سوريا.

الإسلام كغطاء للصراعات الإقليمية
كما كان البعث في السابق أداة للصراع بين العراق وسوريا، أصبح الإسلام السياسي اليوم غطاءً لصراع إقليمي أوسع:
إيران تستخدم بغداد كذراع سياسية وعسكرية لمشروعها الإقليمي، مستغلة سيطرة الأحزاب الشيعية.
تركيا ودول إقليمية أخرى تدعم الفصائل السنية في سوريا، لمنع النفوذ الإيراني من التمدد في دمشق.
وهكذا، تحوّل الصراع من كونه بين نظامين بعثيين متنافسين، إلى كونه صراعًا بين مشروعين إقليميين أحدهما شيعي والآخر سني، وكأن الدين الواحد لم يحقق الوحدة، بل عزّز الانقسام الذي كانت الأيديولوجيا القومية قد زرعته في السابق.

هل كان البعث أكثر استقرارًا؟
المفارقة الكبرى هي أنه، رغم القمع والاستبداد الذي مارسه البعث في البلدين، لم يصل مستوى الفوضى وعدم الاستقرار إلى ما هو عليه اليوم. صحيح أن الأنظمة البعثية كانت دموية، لكنها كانت تفرض شكلًا من أشكال الاستقرار النسبي، مقارنة بحالة الانهيار التي تشهدها المنطقة اليوم في ظل الإسلام السياسي.

يمكننا القول إن بغداد ودمشق لم تكونا يومًا شريكتين حقيقيتين، لا تحت حكم البعث، ولا تحت حكم الإسلام السياسي. وكما أن الأيديولوجيا القومية لم توحّد النظامين، فإن الدين المشترك لم يوحّد الإسلاميين. وبدلًا من أن تصبح بغداد ودمشق نموذجًا لتكامل عربي أو إسلامي، أصبحتا مسرحًا دائمًا لصراع المصالح الإقليمية، حيث تتغير الأيديولوجيات، لكن الصراع سيبقى ودون هواده .

من يحرك الصراع؟ هل هو صراع داخلي أم لعبة دولية؟
عبر العقود، لم تكن التوترات بين بغداد ودمشق مجرد نتيجة لخلافات داخلية، بل كانت انعكاسًا مباشرًا لتدخلات القوى الكبرى. فمنذ الحرب الباردة، كان الاتحاد السوفييتي يدعم البعثيين، بينما لعبت الولايات المتحدة دورًا في تقويضهم، خاصة بعد 2003. في الوقت ذاته، استغلت إيران هذه التناقضات لتعزيز نفوذها في البلدين، وهو ما تعزز بعد الانسحاب الأميركي من العراق عام 2011.
اليوم، بعد انهيار النظام السوري، لم تعد معادلة بغداد-دمشق كما كانت. فالقوى التقليدية لم تعد الفاعل الرئيسي، بل دخلت أطراف جديدة إلى الساحة، من تركيا إلى الفصائل المحلية ذات الولاءات المتعددة. وبينما يبدو أن التناقضات بين البلدين قد تراجعت، إلا أن التاريخ يثبت أنها ستظل جزءًا من معادلة الشرق الأوسط المضطربة، حيث لا تحالفات دائمة ولا عداوات أبدية، بل مصالح تتغير بتغير اللاعبين. وسيقى الشعبين السوري والعراقي يدفعون الثمن لذلك الصراع التاريخي وللعبة الدولية القذرة .

التعليقات معطلة.