بلادي.. بلادي!

4

 

تغريدة الصباح – حسن حميد

أما وقد وقعت الحرب، فقد وقعت حتى استللنا لها توصيفا فسميناها بالواقعة لبدو آثارها وعقابيلها وما جرته من ويلات وتلاوم وأذيات واستعتاب، أما وقد استمرت الحرب، فقد استمرت حتى صارت هي الحياة كلها، لقد ركضت الأمهات بنا، ونحن أجنة كي ننجو من أهوالها، وركضن بنا، وكنا أطفالا، وشبابا، وكهولا، وشيوخا، وميتين في المقابر أيضا، أما وقد عشنا الحرب فقد عشناها واكتوينا بنارها حتى صارت تجاربنا فيها كتابا نقرأ فيه كيلا نقع في أغلاط ما مضى، أما وأن كل هذا تاريخ، بلى إنه تاريخ، فنحن لا نذكر الأرض إلا ونذكر ما حدث، وما جرى، وما قيل، وما فات، وما سهونا عنه، وما وقعنا فيه على وجوهنا، وما أدمى قلوبنا، وما أبكانا، وما قهرنا، وما عز علينا، وما افتقدناه من عزوة وأذرع شدود، أما وأن كل هذا جغرافية، أجل إنه جغرافية، لأننا رأينا رأي العين بكاء شاطئ غزة المديد على ما أصاب نخيل أريحا، وسمعنا سماع الموجعات الناحبات في عكا إن أوذيت حارة النصارى في القدس، وانحنى القلب لأن نارا شبت في أحراش بلدة (الخضر) الواقعة بين بيت لحم والقدس، ليس خوفا من انتهاك سرية مساررة بين عاشقين هناك، وإنما لخوفنا من القول: إن لون أوراق شجر الحرش هناك.. أسود!

ودارت بنا الأرض، وهي جغرافية، لأن عتبات معابدنا ما عادت آمنة لطيور الحمام! وتاهت خطانا لأنها كانت بحاجة ملحة للتدرب على الانتقال من دروب إلى دروب، والاطمئنان إليها، ومعرفة سلامتها وخلوها من الأفخاخ والأشراك والمفاجآت الكواره؛ وعم حزننا قلوبنا وأبصارنا وعقولنا لأن المقابر، وهي جغرافية، صارت مدنا وسيعة، بعدما أجبرتنا المجازر أن تكون قرى لها حدودها مع الحقول والبراري؛ وتساءلت مدارسنا، وهي جغرافية، ثم ماذا بعد؟ وأين يختبئ الصباح الجديد، وأين هي طوالع الندى، ومتى نجالس فجاج الفجر لنرى تفتح الورود؛ ونادتنا الأنهار العزيزات، وهي جغرافية، متى تتزين ضفافي بقطعان الماشية، وبألحان الرعاة، وغناء الزارعين والحاصدين والقاطفين، وضجيج العربات، وغناء النساء، ومرور الريح الخالية من روائح البارود في أجمات القصب؛ أما وأن الدروب، وهي جغرافية، لم تغادر عشقها وفرحها بنا، وبالقرى، كلما مشيناها، وكلما استظل بنا التعب الجميل تحت أشجار الخروب والجميز، فهي كذلك لكثرة فقدها للطمأنينة، ولكثرة ما مرت بها عربات الحديد الحاملة لقنابل الحديد، ونار الحديد، ولكثرة ما رأت من وجوه صم لا ضوء فيها ولا بريق ولا صورة، وجوه لخلق عابسين مدججين بالمخيفات شرا، وهم يتهامسون، ويتخافتون، ويتعالون بأصواتهم المنادية جهرا بأنهم خلقوا للقتل والخراب وإشاعة الخوف، وأنهم يجولون بكل هذا، مثل ريح حاملة للسموم؛ وأما أن الذاكرة هي البيت، والبيت جغرافية، فهي توالدت، ونمت، وعاشت في صدورنا وفي الكتب والحكايا، عاشت في قولاتنا: كيف الحال، عساكم بخير، طمنونا عنكم؛ يا للذاكرة كم سندت أرواحنا حين مالت الأبدان، وكم أنقذتنا من فساد العقول وتعفنها، وكم هدتنا إلى صراخ الدم كي لا نرتمي ونتحطم في مهاوي اللغو والشقشقة، كم دارت بنا الذاكرة، ودرنا بها حتى غدت الحصن والأسوار، والقلب والعقل والأيدي، بل حتى غدت هي المدار كلما أراد الشر الإحاطة بنا، الذاكرة ليست مكانا، ولا أزمنة، ولا حكايات، ولا حيوات أشخاص وكفى، الذاكرة هي الحياة، هي المقدس فيها، وهي قراءاتها النبيلة كلما اسود الليل الفاحم، هي صحوة القلب وماؤه، هي النهر وقراه، وهي السماء وغيومها وطيورها وكتابها، وهي المعابد وأسرارها، وهي الآتي من الأيام؛ وليست أيام الفلسطينيين الذين شوتهم نيران الحرب، ونيران التشرد والتهجير، ونيران الطائرات، والسفن، والمدافع، والصواريخ، والقولات الرجيمة، وكذب الإعلام، والسياسات الشناءة، وإدراة الظهر والتجاهل، والعماء، وقولة: لا دخل لي، وجنبي هذا ليس من جنبي ذاك، وقطع روابط كل عزيز ونبيل من القيم والعقائد.. بلى ليست الأيام الفلسطينية القادمات سوى ما حرصت عليه الذاكرة، نعم، كل شيء قابل للانتزاع، بسبب قوة عدونا وتطرفه، وغلوه، وجهله بالمستقبل، وحماقاته المرتكبة بحق كل مقدس فلسطيني، من حق الجنين بأن يشم رائحة أمه، وأن يرضع من صدرها، ويشم رائحة حليبها، ومن أن يكبر، فيناديها أمي، أمي، إلى حق من يرحل عن الحياة أن يوارى الثرى بالوداع اللائق، إلى حق العلم الوطني أن يرفرف بألوانه الأربعة في منفسح من الهواء كريما عزيزا، إلى حق أطفالنا في المدارس أن يتناشدوا في بواكير الصباح: بلادي، بلادي، نعم كل شيء قابل للانتزاع، بسبب ظلموت عدونا، إلا الذاكرة التي لا تستطيع القوة، ولا التوحش، ولا مجاهر العالم، ولا تقتنياته كلها، أن تحدد موقعها بالضبط؛ كل شيء قابل لاستقبال العتمة والرضا بها.. سوى الذاكرة لأنها نور آبد!

وبعد، أما وأن هذه الصورة الاستعمارية تطال بأذياتها وعسفها كل شيء في بلادنا، هي اجتماع صور الاستعمار الوحشي الذي عرفها البشر جميعا، من أيام المغاور والغابات إلى ما أبدته الحروب والمجازر والمذابح في كل أنحاء الدنيا، نعم..هي اجتماع صور قباحات السكوت العالمي، وغياب الضمير، والسكوت على الشرور.. كل هذا نعم، وهينعم مؤكدة، حين نعرف حقا من هي البلاد الفلسطينية، ومن هم أهلها، وأي عمران عمرانها، وأي محبة إلهية عرفتها أرضها. وحين نعرف أيضا، ونحن نعرف بالتوكيد، الشركاء في هذا الظلموت الإسرائيلي الذي طالنا، ومازال، منذ أن أقيمت أول مستوطنة غربية، مثل فطر مسموم فوق أرضنا العزيزة، وبفرمانات أهل القوة.

أما ونحن نعرف كل هذا، بعد أن قرأناه بالقراءات السبع، وعشناه بالأليمات السبع.. فلا خوف، ولا يأس، لأن الوعي، مثل الذاكرة، هو الحياة.

التعليقات معطلة.