بعد متابعة دؤوبة لمواقف موسكو مما يجري في الرحاب الفلسطينية، غداة حدث السابع من أكتوبر(تشرين الأول) وتوابعه، تخلى بعض أهل الرأي، من الفلسطينيين بخاصة، عن تحفظهم التقليدي إزاء نقد السياسة الروسية.
قال قائل منهم إن تعامل الرئيس بوتين مع جرائم الحرب الإسرائيلية المدعومة كلياً من «الغريم الأمريكي»، لا يرقى إلى مجرد اعتراض، متهكماً إلى أن أحداً من القادة الروس، من بوتين إلى المتحدثة الرسمية الشقراء ماريا زاخاروفا، لا يسمع لهم حس ولا خبر حول ما يحدث من مذابح جماعية، أساساً في غزة ونسبياً في الضفة..
ولا نعرف لهم رأياً واضحاً من مشاريع التهجير، التي يلهج بها الرئيس الأمريكي ترامب وحليفه رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو!.
إذا عطفنا هذه الآراء الموصولة بالحالة الفلسطينية، على التزام موسكو بمداخلات تراوح بين البرود والحذر والغموض والسيولة واللامبالاة والصمت، تجاه الانغماس الأمريكي الخشن سياسياً وعسكرياً، في أكثر من ميدان شرق أوسطي آخر..
تحتم علينا افتراض أننا بصدد سياسات وتوجهات روسية مقصودة عمداً، ولا يصح تعليلها بالغفلة عما يتفاعل في نطاق جيواستراتيجي، ظل مطولاً مجالاً لإثبات الحضور والتأثير، في سياق التنافس رأساً برأس مع النفوذ الأمريكي.
بحكم ديكتاتورية الجغرافيا، يبقى الشرق الأوسط في صرة العالم، بمياهه الدافئة وأسواقه وموارده الاقتصادية وإرثه الحضاري والثقافي، خاصرة بالغة الأهمية لروسيا الاتحادية، بقدر ما كان عليه الحال في العهد السوفييتي وما قبله.
وطالما احتفظت موسكو بسياستها الثابتة المتعلقة بمزاحمة واشنطن ومناكفتها على قمة هرم القوى الدولية، وهذه حقيقة مؤكدة، فلا يجوز الاعتقاد بأنها ستطوي ملفات هذه الخاصرة أو تلقي بها ظهرياً، جزئياً أو كلياً، دون تفسيرات معقولة.
أحد هذه التفسيرات، يدفع بأن التحالف الغربي متوسلاً بأدوات قوية للضغط والتأثير، كالعقوبات متعددة العناوين والتمدد شرقاً عبر توسيع عضوية الناتو الأوروبية وحرب الاستنزاف الأوكرانية، تمكن من تكبيل الحراك الروسي شرق أوسطياً و«زنقه» في زاوية ضيقة.
ونحسب أن هذا التصور، تعرض لشيء من التصرف والفهم المتعمق بسرعة قياسية، بعد فوز ترامب بولايته الرئاسية الثانية. الفكرة هنا، أن هذا المستجد كان فارقاً وحاسماً بوضوح لجهة إحداث تغييرات في التعامل الأمريكي، مع المشهد الدولي بعامة والقطب الروسي بخاصة.
ومنها أن ترامب تبنى نزعة نقدية لاذعة لسياسات العواصم الأوروبية، بما فيها كييف برئاسة زيلينسكي، تجاه الحرب الأوكرانية..
وأظهر شيئاً من التفهم لتقديرات روسيا حول مجالها الأمني في أوروبا.. ولم يعبأ باستحقاقات حلف الناتو، معتبراً أن الشركاء الأوروبيين، اعتمدوا كثيراً على العطايا الأمريكية داخل الحلف وخارجه إلى ما يشبه الابتزاز، بل راح يلوح بالتخفف من تكاليف الحلف، وربما مغادرته من الأصل، ويفرض قيوداً على تسليح أوكرانيا، ويطالبها باسترداد ما أنفقته الولايات المتحدة عليها في غضون حرب لا يرى أنها ستنتهي لصالحها.
تعامدت هذه المستجدات مع فتح إدارة ترامب لقنوات للاتصال والتواصل والتباحث مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عبر دبلوماسية المبعوثين الرئاسيين، والتفاوض الثنائي وقبول الوساطات وإعادة الخط الساخن مع موسكو، وذلك بهدف وقف الحرب وتسوية القضية الأوكرانية.
واللافت أن هذه الخطوات جميعها جرت بمعزل عن مشاركة الأوروبيين، أو حتى الأوكرانيين أنفسهم، ما يعكس استهانة «الزعيم» الأمريكي بهؤلاء وهؤلاء، وميله إلى إملاء رؤاه عليهم عوضاً عن سياسات الإرضاء والاسترضاء والأخذ والرد، التي وسمت السلوك الأمريكي معهم، لاسيما في سنوات سلفه بايدن.
في معرض استكناه هذه الانعطافة، يتحدث البعض عن الكيمياء التي تجمع بين ترامب وبوتين والإعجاب المتبادل بينهما، بحسبهما يميلان إلى الزعامة المطلقة، غير أن هذه المعالجة شبه النفسية، لا تكفي بالمطلق لتبرير سلوك القوى العظمى في المحيط الدولي.
الأكثر منطقية وإقناعاً من ذلك هو تحري الأسباب المصلحية والاستراتيجية الكبرى، التي تكمن وراء المبادرة بالتقارب، وبخاصة من الجانب الأمريكي.
هنا، تصح المجادلة بأن ترامب ونخبته الحاكمة، يضمرون كبح جماح التوافق الروسي الصيني، الذي يكاد يبلغ طور التحالف الاستراتيجي في كل الأبعاد والمناحي.
وهو تكنيك مستلهم على الأرجح من النموذج الذي اشتقته واشنطن في زمن الثنائي، الرئيس نيكسون ووزير خارجيته كيسنجر، حين نسجا «سياسة الوفاق» مع بكين ثم موسكو في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي.
علاوة على التهدئة الأمريكية، وفرملة الانجرار خلف توجهات الأوروبيين لاستنزاف روسيا في المعمعة الأوكرانية، ثمة مؤشرات قوية الدلالة على استحسان واشنطن لنهج الوفاق، ولو بدون الإفصاح عن هذا المسمى..
أبرزها فتح الحرب التجارية إلى مديات قصوى ضد بكين، بفرض رسوم جمركية على وارداتها تصل إلى 245%، مقابل الإعفاء الكلي على الجانب الروسي!. ثم إن واشنطن، كما يقال، تتولى إبرام صفقة مع بوتين، تقضي بالتلاقي بينهما على استثمارات مشتركة لاستخراج المعادن النادرة في أوكرانيا بعد إحلال السلام فيها.
رب قائل إن الاسترخاء النسبي على الجبهة الأوكرانية، الأوروبية عموماً، لم يستتبعه أو يوازيه إعادة تنشيط للسياسة الروسية الشرق أوسطية!. هذه الملاحظة المشروعة تثير التساؤل عما إن كان مشهد العلاقة بين القطبين، يتدحرج إلى ما هو أبعد من احتمال الوفاق..
نقصد بذلك «التوافق» أو التفاهم الضمني على تقاسم النفوذ ولو بشكل جزئي ومبتسر بين شمال المتوسط وجنوبه وشرقه!. نتحدث بالخصوص عن مجرد احتمال آخر، ستفصح الأيام عن مدى صدقيته.