إيران ونهاية الدور الوظيفي: قراءة استراتيجية لمآلات المرحلة

27

 

 

منذ عام 1979، حين رفعت الثورة الإيرانية شعاراتها ضد الولايات المتحدة وإسرائيل، بدا أن المنطقة تشهد نشوء محور مقاوم للنظام الدولي القائم. غير أن مراجعة دقيقة لمسار الأحداث الإقليمية تكشف أن إيران، سواء عن قصد أو كوظيفة موضوعية ضمن سياق توازنات القوى، ساهمت في خدمة المشروع الأميركي الإسرائيلي أكثر مما واجهته.

الخلفية التاريخية: شعار الثورة ومخرجات الواقع

باسم “محور المقاومة”، خاضت إيران سلسلة من السياسات والممارسات التي أسفرت عن نتائج معاكسة لما رُوّج له. فقد أضعفت الحروب بالوكالة الجيوش العربية التقليدية، ومزقت البنية الاجتماعية في عدة دول، وساهمت في إذكاء الصراعات الطائفية، مما أنتج فراغًا إقليميًا عزز من تموضع إسرائيل وأمنها الاستراتيجي.

على مدى أكثر من أربعة عقود، تحولت العواصم العربية الكبرى، من بغداد إلى دمشق وصنعاء، إلى ساحات استنزاف مزمن. أما القضية الفلسطينية، التي لطالما شكلت جوهر الصراع العربي الإسرائيلي، فقد تم تهميشها لصالح أولويات إيرانية مرتبطة بتوسيع النفوذ الإقليمي، مع بقاء الخطاب الثوري حاضراً كأداة تعبئة أكثر منه مشروع تحرري حقيقي.

الدور الوظيفي: مقاربة توازنات القوى

من منظور استراتيجي، كانت إيران أشبه بلاعب يخدم، ولو عن غير قصد، توازن القوى الدولي والإقليمي الذي سعت الولايات المتحدة وإسرائيل إلى ترسيخه بعد الحرب الباردة. فقد سمح وجود نظام ثوري الشكل، طائفي النزعة، باستدامة حالة من التوتر المنضبط، مكنت القوى الكبرى من إدارة الأزمات بدل مواجهتها المباشرة.

كما أن واشنطن وتل أبيب لم تعاملا طهران كعدو وجودي حقيقي، بل كطرف مفيد في تفكيك المجتمعات العربية ومنع تشكل كتلة إقليمية موحدة. كل تصعيد أو توتر كان يفتح المجال أمام مزيد من التدخل الدولي، ومزيد من الحاجة إلى ضمان أمن إسرائيل، ما عزز من مقومات التفوق الاستراتيجي الإسرائيلي لعقود طويلة.

التحولات الراهنة: تجاوز الهامش المسموح

غير أن المشهد بدأ يتغير مؤخرًا. فتحالف طهران المتنامي مع موسكو وبكين، في ظل تصاعد التوترات العالمية، نقل إيران من خانة “اللاعب المزعج المفيد” إلى خانة “الخطر الاستراتيجي المحتمل”.

توسيع دائرة النفوذ الإيراني إلى ما وراء الشرق الأوسط، والانخراط في تحالفات كبرى خارج الفلك الأميركي، جعل من استمرار النظام الإيراني تهديداً للمصالح الغربية. إسرائيل اليوم لم تعد ترى في إيران مجرد أداة لتخويف الداخل أو استدراج الدعم الدولي، بل كتهديد وجودي يستدعي تحركات وقائية، قد تصل إلى حدود السعي لإسقاط النظام أو تغيير بنيته جذريًا.

أما واشنطن، وإن بدت مترددة، إلا أن استمرار النظام الإيراني بصيغته الحالية بات يفرض عليها إعادة النظر في استراتيجيات التعامل معه، خصوصاً في ظل ما يشكله من عقدة إضافية في سياق صراع النفوذ مع الصين وروسيا.

استحقاقات المرحلة المقبلة: سيناريوهات مفتوحة

في ضوء هذا التحول، تبدو المنطقة على أعتاب فصل جديد. فالدور الوظيفي الذي لعبته إيران طيلة 45 عاماً اقترب من نهايته، بعدما استنفد غاياته ولم يعد متلائماً مع طبيعة التوازنات العالمية المستجدة.

السيناريوهات الممكنة تتراوح بين احتواء إيران عبر ضغوط متصاعدة تهدف إلى تعديل سلوك النظام داخليًا، وبين الذهاب نحو مقاربات أكثر جذرية تشمل دعم قوى التغيير الداخلي أو حتى خيارات عسكرية محدودة.

ما يزيد من ترجيح السيناريوهات المتشددة أن التحالفات الإقليمية الجديدة — خصوصًا بين إسرائيل وعدد من الدول العربية — باتت ترى في تحجيم الدور الإيراني أولوية استراتيجية مشتركة، وهو ما قد يفتح الباب أمام تعاون إقليمي دولي غير مسبوق في هذا السياق.

 نهاية وظيفة، وبداية معادلة جديدة

لقد شكلت إيران، خلال العقود الأربعة الماضية، عنصرًا رئيسيًا في إعادة تشكيل الشرق الأوسط وفق معادلات تخدم بالدرجة الأولى المصالح الأميركية والإسرائيلية. إلا أن تجاوز النظام الإيراني للهامش المسموح له، ودخوله في تحالفات مع قوى دولية صاعدة، جعله عبئًا أكثر من كونه أداة وظيفية.

اليوم، المنطقة تقف أمام منعطف حاسم: إما احتواء إيران ضمن معادلات جديدة تعيد ضبط الدور الوظيفي بما يخدم مصالح القوى الكبرى، أو الانتقال إلى مرحلة ما بعد النظام الحالي، بكل ما تحمله من تحولات كبرى في معادلات القوة والنفوذ.

يبقى السؤال مفتوحاً: هل ستتمكن طهران من تعديل مسارها لتجنب العاصفة المقبلة، أم أن نهاية الدور ستعني بالضرورة نهاية الحقبة التي بدأت عام 1979؟

التعليقات معطلة.