وسط مشهد إقليمي مضطرب، وانهيارات داخلية متسارعة في بنية الدولة العراقية، جاءت عودة زلماي خليل زاد إلى بغداد كحدث يتجاوز رمزيته الشخصية إلى ما هو أبعد: إنه مؤشر واضح على أن النظام السياسي العراقي، الذي صيغ برعاية خليل زاد قبل أكثر من عقدين، قد بلغ مرحلة تتطلب مراجعة جذرية أو إنعاشاً أخيراً قبل الانهيار.
على خلاف الزيارات الدبلوماسية التقليدية، حملت لقاءات خليل زاد مع مسؤولين بارزين، وقادة قوى سياسية محورية، رسائل أكثر أهمية مما أُعلن. لم يكن الهدف استعراض العلاقات أو إعادة تأكيد الثوابت، بل بدا واضحاً أن الزيارة جاءت لإعادة تقييم البنية السياسية برمتها، في ضوء المتغيرات الإقليمية والدولية، وتآكل الشرعية الداخلية.
زيارة خليل زاد قد تكون محاولة لإعادة ضبط مسار الدولة، من خلال التأثير على القوى السياسية، وتعزيز دور المؤسسات الحكومية، والضغط نحو إصلاحات سياسية. هذه الخطوات، إن تمت، قد تسهم في تعزيز الاستقرار السياسي، وتحقيق التوازن بين مختلف القوى في العراق.
التحركات السياسية التي واكبت الزيارة، بدءاً من لقاءات مع قيادات حكومية عليا، مروراً برموز قوى سياسية شيعية وسنية وكردية، وصولاً إلى مشاورات مع شخصيات غير رسمية مؤثرة، كشفت أن الحديث هذه المرة لا يدور عن “تحسين الأداء”، بل عن التفكير جدياً بإعادة صياغة قواعد اللعبة التي أُرست منذ 2003.
ما يدفع إلى هذا التحرك الأميركي ، الذي تمثله عودة خليل زاد ، هو إدراك أن العراق بات مهدداً بأن ينزلق نهائياً خارج المدار الأميركي، في ظل تصاعد النفوذ الإيراني وتنامي محاولات روسيا والصين لاستغلال الفوضى الداخلية. والأهم، أن السخط الشعبي الذي يعمّ الشارع العراقي لم يعد مجرد تململ؛ بل تحول إلى قابلية شعبية متزايدة للتغيير الجذري، ما ينذر بانفجار اجتماعي قد لا تملك واشنطن ترف تجاهله.
عودة خليل زاد تمثل محاولة أخيرة لترميم الإطار السياسي قبل أن تفرض الوقائع نفسها بقوة. فليس سراً أن بعض مراكز القرار الأميركية ما زالت تفضل بقاء النموذج العراقي الحالي مع بعض التعديلات، بدلاً من المخاطرة بسيناريو انهيار شامل قد يُنتج نظاماً معادياً للمصالح الأميركية والغربية.
غير أن حسابات الهندسة السياسية، مهما بلغت دقتها، تصطدم اليوم بواقع لم يعد يرحم. النخب التي كانت في السابق قابلة للتوجيه والإدارة، أصبحت اليوم رهينة مصالحها الذاتية، والشارع الذي كان محكوماً بمظلومية ما بعد 2003، بات أكثر وعياً بأخطائه وأخطاء من تصدروا مشهده.
في النهاية، عودة زلماي خليل زاد ليست مجرد زيارة دبلوماسية عابرة، بل هي إقرار ضمني بأن النظام العراقي كما صُمم قبل عقدين لم يعد قادراً على الاستمرار دون تدخل مباشر يعيد ضبط إيقاعه أو يُعيد صياغته من الأساس. لكن يبقى السؤال الأهم . هل فات الأوان على أي عملية إنعاش، أم أن بغداد ما زال فيها نفس لتقبل صدمة كهربائية أخيرة قبل الموت السريري؟