زهير ماجد
حين استعصت الحرب اللبنانية على الحل، وجدتني، ولأول مرة، اشعر بغربة طويلة قبل ان تحصل. هي الإحساس بأنك تغادر المكان الذي تحب قبل ان تغادره، فماذا هو عليه احساس من غادروا اوطانهم جسدا وصار صعبا عليهم العودة كما هو حال الفلسطيني مثلا، او السوري مؤقتا وغيره.
كلما اجتمع مسؤول سوري مع النازحين السوريين في لبنان من اجل اعادتهم إلى سوريا، شعر النازحون ان الأمان يلف حياتهم .. ما خافوا منه، سوف لن يتحقق، لا بد اذن من العودة إلى المطارح التي بدأت فيها الحياة الأولى، لا يمكن ان يأنس المرء بمكان آخر حين يبلغه الوعي .. لكن جميعنا تختارنا الأوطان لأن اهلنا هم من وجدوا لهم المكان الذي ورثوه عن اجدادهم وآبائهم، فصار وطنهم.
لا بد من عودة هذا النازح السوري الذي تغيرت حياته بأكملها خلال الحرب على بلاده. ما زال مكانه شاغرا ينتظره بفارغ الصبر، وما زالت اماكن اللهو ومدرسته وانفاس الحنين موجودة ومسلم بها، وما زال هناك الإحساس بأن له مسقط رأس سوف يضمه في حياته ومماته.
لكن الفلسطيني، ما عليه ان يفعل، كلنا نعود إلى اوطاننا ساعة نشاء، تقودنا عواطفنا وأحاسيسنا واشواقنا إليها .. الا هو. ثمة مغتصب يقهره فيمنعه، عندما خرج الفلسطيني من ارضه ابان النكبة، لم ترق السكنى خارجها، فقرر بعضهم العودة تسللا .. تصوروا ان مواطنا كان مواطنا صار لا شيء بعد ايام أو ساعات، صار نكرة، حذف من بلاد بعدما تغير اسمها. يذكر لي احد القادة الفلسطينيين كم من الأهوال واجهوها أثناء سيرهم الطويل ابان النكبة الأولى والرصاص فوق رؤوسهم بلا توقف، مضيفا ان اهله ندموا على ترك ارضهم، ولو كان الخيار موتهم اذا ما بقوا لكانوا فضلوه.
المشكلة التي يواجهها السوريون النازحون اليوم هي في صغارهم الذين كبروا في الغربة، هم سوريون بالتأكيد لكنهم على ارض يقول مسؤولوها انهم فيها غرباء، يصرحون ليل نهار ضد بقائهم، فيما مسؤول سوري قال لي انهم على ارض سورية لأن لبنان كان جزءا من سوريا فهل تغير الاسماء خلايا المكان الأساسية! ..
لا يمكن اللعب مع حس الانتماء، مع الانتماء الاقوى في شرع الفرد والجماعة، ويكاد ان يكون معادلا للروح كما كتب احدهم . ما ينتمى إليه لا ينسى، هو مقبرة الذاكرة لأن عليه جرت احداث الحياة وتواترت.
قال لي احد الفلسطينيين الذين حصلوا على جواز سفر من السلطة الفلسطينية انه لم يشعر بمواطنينته، بل من اوراق رسمية ليس فيها روح وطن. اوافقه تماما، بل اشعر مع شعوره وعلى ما واجهه من احساس دفين.
في شتى المسابقات التلفزيونية يتبارى شباب وبنات او اطفال، وحين يسأل احدهم عن هويته يذكرها فورا، لا احد يختبئ وراء المكان الذي يحمله معه اينما حل .. انت كذا في أي بلد تزوره للسياحة او للهجرة ، ولسوف تضطر ان تكون لك اقامة وعليك ان تراجع الدوائر الرسمية للهجرة، وحتى لو اعطيت جواز سفر من المكان الذي اصبحت فيه مواطنا، فلن تكون مواطنا دون ذكر البلد الذي جئت منه، بمعنى انك لن تعفى من تاريخك الأول الذي سوف يلاحقك.
لابد من العودة اذن إلى الديار الأولى مهما طال الوقت، ومهما واجهتها مصاعب، لكن الفلسطيني لن يتمكن كيفما قلب اموره.