فكثيرة هي الكتابات في عالمنا العربي وخارجه التي تركز على سياسات إدارة ترامب سعياً لفهم اليمين الراديكالي في العالم. ولم لا؟! فالإدارة قامت، في أسابيع قليلة، بعمل منظم للقضاء على كل الإجراءات والهياكل الحكومية، التي ظلت لعقود تسعى لإصلاح الظلم التاريخي بحق الأقليات العرقية والدينية، ثم امتدت المعاول لملاحقة ما يخالف ذلك التوجه.
فكانت المدارس والجامعات ومراكز البحوث هدفاً رئيسياً، فالمطلوب إلغاء كل الإجراءات التي تضمن معايير منصفة للتوظيف والقبول، والذين يعتبرون أمريكا معياراً لفهم اليمين الراديكالي يجدون في زيارات رموز إدارة ترامب الخارجية سبباً إضافياً.
فنائب الرئيس الأمريكي حين زار أوروبا بعد فترة وجيزة من تولي ترامب ألقى كلمة، اتهم فيها الحكومات الأوروبية بالتخلي عن الديمقراطية، لأنها تحظر الخطاب السياسي للجماعات اليمينية الراديكالية. وحين زارها إيلون ماسك هو الآخر سعى للقاء بأحزاب اليمين الراديكالي ودعاها علناً للاجتهاد في اكتساح الساحة السياسية.
وعندما حرم حكم قضائي مارين لوبان، زعيمة اليمين الفرنسي المتطرف، من الترشح للرئاسة عقدت الكتابات المقارنة بين مقدراتها ومقدرات ترامب، ففي الوقت الذي حرمت فيه لوبان من الترشح رغم أن حزبها حصل على ربع الأصوات في الانتخابات الأخيرة.
فإن ترامب، الذي انهزم في 2020 نجح في العودة للرئاسة، وحتى حينما صعد حزب «البديل من أجل ألمانيا» صعوداً مدوياً في الانتخابات التشريعية الأخيرة ظلت المقارنة معقودة بين مقدراته ومقدرات اليمين الأمريكي باعتبار الأخير هو المعيار، الذي يقاس على أساسه حجم النجاح.
بل وحتى استمرارية الصعود، غير أن الوقوف على تطور ذلك اليمين حتى في نسخته الأمريكية لا يجوز أن يغض الطرف عن نموذج فيكتور أوربان، بل يحسن، في تقديري، أن يكون أوربان هو نقطة الانطلاق للإلمام بالظاهرة.
فهي لم تكن مصادفة، على سبيل المثال، أن يدعو تجمع اليمين الأكثر قوة ونفوذاً في الولايات المتحدة فيكتور أوربان لإلقاء خطاب رئيسي في احتفاله السنوي. وهو الاحتفال الذي استقبل فيه أوربان بحفاوة مذهلة، واستمع الحاضرون لخطابه بإنصات التلميذ الذي يتعلم من أستاذه!
كما حدث في أمريكا وأوروبا، لأن الماركسية لم تمت بانهيار الاتحاد السوفييتي، فالماركسية عند أوربان باتت تتخذ صوراً مختلفة، وتطلق على نفسها مسميات جديدة،.
وبالتالي هي «العدو» الذي يتحتم محاربته لأنها الشيء نفسه، وألمعية الفكرة، التي قدمها أوربان مصدرها أنها توفر لليمين الراديكالي شعاراً واحداً فضفاضاً، يسمح له بإنتاج عدد لا نهائي من الأعداء على اختلاف المكان والزمان، فلأن الماركسية عنده باتت تتلون.
وتأخذ صوراً مختلفة يمكن لتيار اليمين أن يحدد «العدو» بنفسه، فيختلف من بلد لآخر، ومن زمن لآخر، ففي المجر العدو هو «المهاجرون غير المسيحيين»، بينما هو «الأتراك المسلمون في ألمانيا».
وهو «أبناء شمال أفريقيا في فرنسا، وأبناء أفريقيا عموماً في إيطاليا»، وهو اليسار «المجنون» و«كل المهاجرين غير البيض في أمريكا!»، وكل هؤلاء «يسرقون» الوظائف، بل ومقدرات «أصحاب» البلاد «البيض» طبعاً، ويهددون قيم المجتمع بقيمهم المغايرة.
وهو تماسك معناه الحقيقي رفض التنوع العرقي من الأساس، وأوربان في تقديري هو النسخة الأصلية، التي قدمت الحفاظ على دولة الرفاهية، بشرط أن تكون متاحة لأبناء عرق واحد فقط، دون غيرهم، أما ترامب في أمريكا، وميلوني في إيطاليا، وحزب البديل في ألمانيا، فهي كلها تنويعات استفادت من فكرة أوربان المركزية.