الذهب الصيني.. حسابات استراتيجية تتجاوز الاقتصاد

3

24 ـ طارق العليان
   

يشهد العالم في الآونة الأخيرة اندفاعة صينية محمومة نحو شراء الذهب، في وقت تتصاعد فيه التوترات الاقتصادية والسياسية على الساحة الدولية. 

تسعى الصين، إلى جانب دول أخرى، إلى تنويع أدواتها المالية

وفي هذا الإطار، سلط الكاتب الصحافي الأمريكي هيو كاميرون، في تقرير لمجلة “نيوزويك” الأمريكية، الضوء على خلفيات هذا التوجه، متتبعاً دلالاته وأبعاده الاستراتيجية.

مستويات تاريخية

شهدت أسعار الذهب ارتفاعاً تاريخياً غير مسبوق، إذ تجاوز سعر الأونصة الواحدة 3500 دولار أمريكي، قبل أن يتراجع قليلاً إلى ما يزيد قليلاً عن 3300 دولار. ومع ذلك، لا تزال الأسعار أعلى بنسبة 40% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، وهو ارتفاع يفوق توقعات المحللين لما يمكن أن تبلغه الأسعار بحلول نهاية عام 2025.

ويُعزى هذا الصعود، وفقاً لتحليلات الخبراء، إلى موجة طلب قوية قادتها الأسواق الآسيوية، وفي مقدمتها الصين. وأشار أدريان آش، مدير الأبحاث في منصة BullionVault لتجارة الذهب، إلى قفزات ضخمة في حجم التداول بالذهب في بورصتي شنغهاي للذهب والعقود الآجلة، ما يعكس نشاطاً لافتاً من القطاع الخاص الصيني.

المخاوف الجيوسياسية 

أما جوزيف كافاتوني، كبير المحللين في مجلس الذهب العالمي، فقد أوضح لمجلة “نيوزويك” أن المستثمرين الصينيين، من مؤسسات الدولة والأفراد على حد سواء، يتجهون إلى الذهب كملاذ آمن في وجه التقلبات المتزايدة، مؤكداً أن التدفقات الواضحة إلى المصرف المركزي الصيني سجلت مستويات “قياسية” غير مسبوقة.

ولفت كافاتوني النظر إلى أن وتيرة شراء الذهب في الصين تسارعت بشكل ملحوظ منذ بداية الولاية الثانية للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، في ظل تصاعد النزاع التجاري بين البلدين، حيث تم فرض أكثر من 145 رسماً جمركياً على الواردات الصينية، مع استبعاد بكين من مهلة التهدئة التي مدتها 90 يوماً، ما زاد من رغبة الصين في حماية نفسها من تقلبات السياسات الأمريكية.

 تساؤلات حول الشفافية

رغم التصريحات الرسمية التي تدلي بها الصين بشأن احتياطاتها من الذهب، يشكك الخبراء في صحة الأرقام المعلنة. فوفقاً لمجلس الذهب العالمي، فإن احتياطيات “بنك الشعب الصيني” تبلغ حالياً نحو 2292 طناً، لكن بعض التقديرات المستقلة تشير إلى أن الكمية الفعلية قد تتجاوز 30 ألف طن.
ونقلت المجلة الأمريكية عن أدريان آش قوله إنه من “المستحيل عملياً” معرفة الحجم الحقيقي للاحتياطيات الحكومية، مؤكداً أن الأرقام المعلنة للصندوق الدولي لا تعكس بالضرورة الواقع، وأن “انعدام الشفافية يجعل التقييم الدقيق مستحيلاً بطبيعته”.

استراتيجية تتعمّق

من جهته، أشار أدريان آش إلى أن التوجه الصيني نحو الذهب في مجمله يعكس مسعى حقيقياً لتقليل المخاطر المرتبطة بالسياسات الأمريكية، والحفاظ على ما سماه “السيادة الاقتصادية” لبكين.

ولا يقتصر التوجه الصيني على الذهب فحسب، بل يمتد ليشمل أدوات مالية أخرى تهدف إلى تقليص الارتباط بالاقتصاد الأمريكي. وأشار كافاتوني إلى أن الصين استحوذت على 5.8 مليار دولار من أصل 6 مليارات دولار تم ضخها في صناديق المؤشرات المتداولة (ETF) في آسيا خلال الأسابيع الثلاثة الأولى من أبريل (نيسان).
وتترافق هذه الخطوة مع قيام الصين ببيع سندات الخزينة الأمريكية في منتصف أبريل (نيسان)، مما يعكس بوضوح نية بكين لتنويع استثماراتها بعيداً عن الأصول المقوّمة بالدولار.
وقال كافاتوني: “في ظل حالة الضبابية الاقتصادية، تسعى الصين، إلى جانب دول أخرى، إلى تنويع أدواتها المالية واتخاذ إجراءات احترازية. والاحتفاظ بالذهب يمكّن بكين من تقليل اعتمادها على الاقتصاد الأمريكي في مجالات التجارة والمدفوعات والاستثمار”.
وفي لهجة أكثر صراحة، علّق أدريان آش قائلاً: “امتلاك الذهب هو موقف مضاد للدولار”. وأضاف “إنها رسالة سياسية أيضاً. فالصين تحاول تقليص تعرّضها للنزوات السياسية الأمريكية”.

سياسات أمريكية متقلبة 

وأجمع كل من كافاتوني وآش على أن الطبيعة المتقلبة للسياسات الأمريكية، خصوصاً خلال إدارة ترامب، دفعت دولاً كبرى، وعلى رأسها الصين، إلى إعادة النظر في اعتمادها على النظام المالي العالمي القائم على الدولار.
فمن القرارات المفاجئة التي تعلن عبر منصات التواصل الاجتماعي إلى تغييرات مفاجئة في الرسوم الجمركية، أصبحت واشنطن شريكاً يصعب التنبؤ بسلوكياته، مما حثّ بكين على تقوية دفاعاتها المالية.
أما الخبير الاقتصادي المعروف بيتر شيف، فقد قال في مقابلة أجراها في منتصف أبريل (نيسان): “الصين تنقل أموالها بعيداً عن الدولار الأمريكي وسندات الخزينة، وتشتري المزيد من الذهب، وتستثمر في اليورو والجنيه الإسترليني والدين السيادي الأوروبي بدلاً من الأمريكي”. وأضاف “نحن، كأمة، نواجه مشاكل جمة بسبب تفاقم عجزنا المالي الذي بدأ يحصد ثماره السلبية”.

إلى أين يتجه الذهب؟

رغم هذا الصعود القياسي، لا تزال توقعات مستقبل الذهب تراوح بين الحذر والتفاؤل. ويرى كافاتوني أن العوامل نفسها التي تدفع الذهب إلى الأعلى، كعدم اليقين والتقلبات، قد تمنعه من تحقيق قفزات أكبر.

لكن ذلك لم يمنع المؤسسات المالية الكبرى من رفع توقعاتها، إذ تتوقع “غولدمان ساكس” أن يبلغ سعر الأونصة 3700 دولار بنهاية العام، بينما ترجّح “جي بي مورغان” أن يتجاوز السعر 4000 دولار في الربع الثاني من عام 2026.

واختتم كافاتوني بقوله: “ما زالت المخاطر والتقلبات والضبابية تسيطر على أذهان المستثمرين.. وهم في قلب العاصفة تماماً”.

التعليقات معطلة.