بينما يتزايد ضباب المشهد الإقليمي، تتسارع الأحداث بطريقة توحي أن المنطقة على أعتاب تحولات جذرية، يعاد فيها رسم التوازنات، ليس بالحوار، بل بمنطق “فرض السلام بالقوة”. والمثير أن من يتصدر هذا الحراك هو دونالد ترامب، العائد إلى واجهة المشهد الدولي بثقة غير خافية، حاملاً معه رؤية مغايرة لما اعتادته المنطقة في السنوات الأخيرة.
أولى مفاجآت هذا الحراك تمثلت في اللقاء الذي جمع دونالد ترامب وأبو محمد الشرع برعاية سعودية. لقاء لا يمكن اعتباره عادياً، ليس فقط لأن الشرع كان يُصنّف حتى وقت قريب ضمن قوائم الإرهاب، بل لأن اللقاء نفسه يمثل إعلان بداية صفحة جديدة، تتعامل مع اللاعبين غير التقليديين باعتبارهم أدوات يمكن توظيفها ضمن ترتيب سياسي جديد.
في الوقت ذاته، يُسجل حضور ترامب في قمة خليجية غير مسبوقة، تبدو وكأنها جاءت خصيصاً لتُفرغ قمة بغداد من مضمونها، وتعيد ترتيب المحور الإقليمي بعيداً عن أثقال النفوذ الإيراني. فبينما تُفقد قمة بغداد بريقها أمام غطاء ترامب الخليجي، يصل قائد فيلق القدس إسماعيل قاآني إلى بغداد بملابس مدنية، في إشارة واضحة على محاولة خفض التصعيد والظهور بهيئة سياسية لا عسكرية.
وفي دمشق، تُفتح كوة في جدار العقوبات، في مؤشر على مقاربة أميركية أكثر براغماتية تجاه النظام السوري، بما يفتح الباب لتغييرات تدريجية في بنية التحالفات، وتحويل الخصوم إلى شركاء مرحليين.
أما في غزة، فيُعاد طرح الملف بهدوء على طاولة النقاش، من خلال وساطة قطرية تشمل اتصالات غير مباشرة بين ترامب وحركة حماس. وهو تطور يعكس انتقال واشنطن إلى مقاربة أكثر مرونة، تُعيد هندسة المعادلة الفلسطينية الداخلية، بما يضمن تحييد القوى الممانعة أو استيعابها ضمن مشروع “التهدئة المستدامة”.
غير أن كل هذه التحركات تجري في ظل تصاعد قرع طبول الحرب على أبواب طهران. فالرسائل الأميركية واضحة: الانخراط في التفاهمات أو مواجهة عزلة دولية قد تتطور إلى مواجهة عسكرية. ترامب، وهو الذي يتقن لغة التصعيد، لا يمانع في استخدام “غصن الزيتون” إذا ما ضمن عبره خضوع الخصوم، لكنه في الوقت نفسه لا يتردد في تحويله إلى فتيل حرب، إذا ما رُفضت شروطه.
ما يجري ليس مجرد مبادرات سلام، بل هو فرض لتوازنات جديدة تحت سقف “السلام بالقوة”، حيث يُطلب من طهران الرضوخ لمنطق جديد، أقل ما يُقال عنه إنه يقيّد أذرعها الإقليمية ويعيد رسم حدود نفوذها، بما يتوافق مع معادلة إقليمية ودولية يتم بلورتها سريعاً.
قمة الخليج مع ترامب لم تأتِ لترميم الوضع القائم، بل لتجاوزه. وهي بذلك تسحب من قمة بغداد مبرراتها وأسسها، وتحصر الدور العراقي في مساحة ضيقة ضمن مشروع أكبر لا مكان فيه إلا لمن يوافق على الشروط الجديدة.
المشهد أمامنا يشي بتحولات كبرى تُطبخ على نار هادئة، لكنها سرعان ما قد تنفجر إن لم يتم احتواؤها برؤية متوازنة. السؤال لم يعد: هل نحن مقبلون على حرب؟ بل: هل هذا “السلام الجديد” هو بالفعل سلام… أم إعادة تموضع مؤقت تسبق العاصفة الكبرى؟

