العراق بين وهم الدولة وحقيقة المكونات: الحاجة إلى مشروع وطني جامع

11

 

 

منذ عام 2003 وحتى اليوم، والعراق يعيش أزمة دولة بكل ما تحمله الكلمة من معنى: دولة تتآكل من الداخل، تتنازعها الولاءات، وتفتقد إلى الحد الأدنى من التماسك الوطني. الكل يتحدث عن “العراق”، لكن لا أحد يتحدث باسم “العراقيين”. والكل يرفع راية “التمثيل”، لكن لا أحد يمثل الشعب حقًا، بل يمثل طائفته، حزبه، أو مرجعيته.

لقد أُجهضت الدولة العراقية مرتين: مرة حين سقطت بالقوة، ومرة حين أعيد بناؤها على أسس لا علاقة لها بالدولة الحديثة. نظام المحاصصة الذي فُرض باسم “الشراكة”، لم يكن إلا قناعًا للتقاسم الطائفي والعرقي، وذريعة لتفكيك المؤسسات، وتحويلها إلى إقطاعيات حزبية. أما المواطن، فوجد نفسه محاصرًا بين سلاح منفلت، وفساد محمي، وولاءات تتجاوز حدود الجغرافيا والسيادة.

أزمة غياب المشروع لا فقط فشل الحكومات

ليس ما يعانيه العراق اليوم مجرد فشل إداري، أو فساد مالي، أو غياب خدمات. ما يجري أعمق من ذلك بكثير. نحن بإزاء غياب مشروع وطني جامع، يحوّل العراق من ساحة صراع إلى دولة قادرة على حماية ذاتها وتقديم نموذج لحياة كريمة. إن كل الأنظمة السياسية التي قامت بعد 2003 افتقرت إلى رؤية لبناء دولة مواطنة، وتعاملت مع الشعب كجماعات متناحرة لا كجسد واحد. ولذلك، لم يكن غريبًا أن يتحول العراق إلى حلبة نفوذ إقليمي ودولي، يتصارع فيها الخارج ويقتسم فيها الداخل الغنائم.

ما العمل؟ نحو مشروع وطني بديل

لقد آن الأوان لإعادة صياغة العلاقة بين العراقي والدولة، من خلال طرح مشروع وطني بديل، يقوم على أساس واضح: الدولة للفرد، لا للطائفة، والسيادة للمواطن، لا للمرجعية أو الخارج. وهذا لا يمكن أن يتحقق من دون تفكيك منظومة المحاصصة، وتجريم العمل السياسي القائم على الهوية الفرعية، وحصر السلاح بيد الدولة، وتحرير القرار السياسي من التبعية والارتهان.

هذا المشروع لا يبدأ من الحكومة، بل من الوعي الشعبي. يبدأ من المثقف، من النقابي، من الطالب، من العامل، من الضابط النزيه، ومن المرأة المهمّشة. يبدأ من فكرة بسيطة: أن العراق يمكن أن يكون دولة طبيعية، إذا استعاد قراره، وعرف مواطنه قيمته، وتوقفت النخب عن بيع الأوهام باسم “المكون”.

الرهان على الشعب لا على الطبقة السياسية

التغيير في العراق لن يأتي من داخل الطبقة السياسية الحالية، لأنها ببساطة نتاج الأزمة وليست جزءًا من الحل. الرهان الحقيقي يجب أن يكون على الفئة التي فُرض عليها الصمت طويلًا: الشعب. هذا الشعب الذي انتفض أكثر من مرة، ودفع أثمانًا باهظة، لكنه لم يجد قيادة وطنية توحد صوته وتحوّل حراكه إلى مشروع قابل للحياة.

المطلوب اليوم هو بلورة رؤية سياسية واضحة، تتبناها نخب حقيقية، مستقلة، وطنية، تؤمن بالعراق قبل كل شيء. رؤية لا تعادي أحدًا، لكنها تقول الحقيقة كما هي: لا دولة بوجود سلاح خارج الدولة، ولا عدالة بوجود محاصصة، ولا سيادة في ظل التبعية، ولا كرامة في ظل الفساد .

 من المأساة إلى المشروع

إن العراق لا يحتاج إلى معجزة، بل إلى رؤية وشجاعة وصدق. يحتاج إلى من يعيد الاعتبار لفكرة الدولة، لا كسلطة فوقية، بل ككيان جامع. الدولة التي لا تخاف من شعبها، ولا يتنازعها الخارج، ولا تبيع نفسها باسم “الخصوصية المذهبية” أو “الاستحقاق الانتخابي”.

اللحظة حرجة، لكن الأمل باقٍ. وما من وقت أنسب من الآن للبدء. فالتأريخ لن يرحم، والشعوب لا تموت، والوطن لن يُبنى إلا بأهله.

فهل من يسمع؟

التعليقات معطلة.