أهمية السياسات الثقافية للحرف الشعبية

8

طوال مسيرتي التي امتدت لأكثر من ثلاثة عقود في خدمة التراث والثقافة، سواء في رواق عوشة بنت حسين الثقافي، أو عملي في العديد من المواقع الأخرى، تعلمت أن الحفاظ على الحرف الشعبية الوطنية، هو استثمار في هوية الوطن ومستقبل أبنائه.

 

اليوم، وأنا أتشرف برئاسة اللجنة الفنية لخبراء التراث غير المادي بوزارة الثقافة، أرى بوضوح أننا نعيش لحظة فارقة في تاريخ الحراك الثقافي الإماراتي، حيث تتحول الرؤى إلى سياسات، والأحلام إلى خطط عمل ملموسة، من خلال الاهتمام الكبير الذي توليه وزارة الثقافة.

ممثلة بوزيرها معالي الشيخ سالم بن خالد القاسمي وفريق عمله الذي ترأسه شذى الملا، الوكيل المساعد لقطاع الهوية الوطنية والفنون، لوضع سياسات وحوكمة لقطاع الحرف الشعبية في دولة الإمارات العربية المتحدة.

منذ نعومة أظافري، تعلمت من والدتي عوشة، أهمية الحرف الشعبية، كانت تقوم بنفسها بمساعدة كل من يمتلك حرفة بسيطة وتحويلها إلى مهنة ومصدر دخل دائم، كانت تؤمن أن الحرف الشعبية هي حكمة الأجداد في التعايش مع روح المكان، وتوفير متطلبات العيش الكريم.

 

وخلال بحوثي ودراساتي الميدانية، وجدت أن كل قطعةٍ من الخوص أو السدو أو الفخار، وحتى الحرف البسيطة مثل جني وتجفيف وخزن التمور، وصناعة الدبس منها، المستخدم في إنتاج الحلويات والمأكولات الشعبية، تحمل كل منها بصمةً فريدة لبيئة الإمارات وتراثها البحري والصحراوي.

ومع مرور الوقت، بدأنا نشعر بتهديد العولمة والتحولات الاقتصادية التي بدأت دفن هذه الحرف ثم اندثارها، وبالطبع فإن حنكة وحكمة القائد المؤسس الوالد المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، في جمع وتشجيع ودعم الحرفيين، خلال الثمانينيات والتسعينيات، قد أسهم بشكل استثنائي في المحافظة على بعض الحرف الإماراتية التي كادت أن تندثر آنذاك.

اليوم، وفي عصر التكنولوجيا والرقمنة والذكاء الاصطناعي، بات التهديد مضاعفاً. لذلك بادرت وزارة الثقافة بوضع خطة ومجموعة خطوات تؤدي إلى وضع سياسات ثقافية شاملة، حريصة على إحياء الحرف كصناعات إبداعية قادرة على التكيف مع العصر.

 

نؤمن في رواق عوشة، بيت الثقافة الشعبية الإماراتية، أن تبقى الحرف الشعبية حية في نفوس الأجيال. ولذلك، يستضيف الرواق، في 31 مايو 2025، بحضور فريق العمل من وزارة الثقافة والخبراء والمختصين والحرفيين والمؤسسات المهتمة في مجال الحرف الشعبية، لمناقشة الخطوط العريضة لهذه السياسات، ولضمان أن تكون البرامج متوافقة مع الواقع وقادرة على تذليل التحديات.

 

فالحرف الشعبية هي إحدى الركائز الأساسية التي تُجسِّد الهوية الثقافية لأي أمة، وهي من ناحية فلسفية، لغة حية تُعبِّر عن تراث المجتمع وقيمه وحسه الإبداعي. وفي دولة الإمارات العربية المتحدة.

حيث التقدم والحداثة يسيران جنباً إلى جنب مع الحفاظ على الجذور، تبرز أهمية وضع سياسات ثقافية فاعلة لدعم الحرف الشعبية، كجزء من استراتيجية وطنية شاملة لتعزيز الهوية وتمكين القطاع الإبداعي.

إن السياسات الثقافية الخاصة بالحرف الشعبية تهدف إلى تمكينها كصناعات إبداعية قادرة على المنافسة في السوق المحلي والعالمي. فعبر توفير الدعم المالي والتقني للحرفيين، وتنظيم معارض وفعاليات تُعرِّف بالحرف اليدوية، وإنشاء منصات تسويقية مبتكرة، تُسهم هذه السياسات في تحويل الحرف من ممارسات فردية محدودة الانتشار إلى قطاع اقتصادي يُدرّ دخلاً ويُعزز الاستدامة.

 

كما أن تدريب الأجيال الجديدة على هذه الحرف، ودمجها مع التكنولوجيا الحديثة، يُعيد لها بريقها ويُكسِبها بعداً عصرياً دون المساس بجوهرها التراثي. وهكذا، تصبح الحرف الشعبية عنصراً حيوياً في حاضر المجتمع ومستقبله.

ولا يخفى أن هذه السياسات قد تلعب دوراً مهماً في تعزيز الانتماء الوطني، خاصة بين الشباب. فعندما يرى الفرد أن دولته تُقدِّر تراثه وتُسخر الإمكانات لحمايته وتطويره، يزداد وعيه بأهمية هذا التراث وارتباطه الشخصي به.

 

كما أن إبراز الحرف الشعبية في الفضاءات العامة، مثل المتاحف والفعاليات الثقافية، يُسهم في تشكيل وعي جماعي بالهوية، ويُقدِّم صورة مشرقة عن التراث الإماراتي للزوار والسياح فيتحول الحرفيون إلى سفراء ثقافيين، وتُروِّج حرفهم للإمارات كدولة تجمع بين الأصالة والتميُّز في الابتكار.

ومن الجوانب البارزة في السياسات المذكورة، تعاونها مع القطاعات الأخرى، مثل التعليم والاقتصاد. فدمج الحرف الشعبية في المناهج الدراسية يُعزز الوعي الثقافي منذ الصغر.

 

كما أن دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة في مجال الحرف يُنشئ فرص عمل جديدة، ويُنوع مصادر الدخل الوطني، مما يُعزز منظومة الاقتصاد الإبداعي التي تُعد إحدى الركائز الاستراتيجية للتنمية في الإمارات.

إن نجاح هذه السياسات يعتمد بشكل كبير على المرونة والتفاعل مع التحديات المعاصرة. ففي عصر العولمة والتحول الرقمي، لا بُد من مواكبة التغييرات عبر استخدام المنصات الرقمية للترويج للحرف، وتسهيل وصولها إلى الجمهور العالمي. كما أن التعاون مع المنظمات الدولية والمشاركة في الفعاليات العالمية يُسهمان في تبادل الخبرات وفتح آفاق جديدة للإبداع.

التعليقات معطلة.