واشنطن وطهران.. من يتوسل من؟

18

 

 

في ظاهر المشهد السياسي، يبدو أن الولايات المتحدة تحاصر إيران بالعقوبات وتفرض عليها عزلة دولية خانقة، لكن ما يدور خلف الكواليس يظهر معادلة مختلفة تمامًا. فالعقوبات الأميركية، على الرغم من شدتها الظاهرة، لم تمنع تدفق الموارد نحو طهران عبر بوابة بغداد، مما يطرح تساؤلاً جادًا: من المتوسل إلى الآخر، واشنطن أم طهران؟

معادلة 1979: الولادة الدولية لنظام طهران

منذ انتصار الثورة الإيرانية عام 1979، بدا واضحًا أن النظام الجديد لم ينشأ في فراغ، بل جاء نتيجة معادلة دولية فرضت بقاء إيران كفاعل إقليمي يحاصر العرب من الداخل، لا من الخارج. وُلد نظام “ولاية الفقيه” كأداة لضبط إيقاع المنطقة، ولعب دورًا وظيفيًا في تقويض أي مشروع عربي مستقل. هذه الحقيقة أشار إليها بوضوح عدد من الباحثين في مجلس العلاقات الخارجية الأميركي الذين رأوا أن “الوظيفة الإيرانية” كانت حاسمة في تشكيل توازن القوى في الشرق الأوسط بعد الحرب الباردة.

غزو العراق: تعاون ضمني لتدمير الدولة المركزية

عندما اجتاحت القوات الأميركية العراق عام 2003، لم تكن طهران بعيدة عن المشهد. بل على العكس، استفادت إيران من الغزو الأميركي إلى الحد الأقصى، وتمدد نفوذها بسرعة غير مسبوقة داخل مؤسسات الدولة العراقية. كما تكشف وثائق وزارة الدفاع الأميركية وتصريحات وزير الدفاع الأسبق روبرت غيتس، فإن واشنطن كانت تدرك تمامًا أن إيران ستملأ الفراغ، لكنها رأت في ذلك “ثمناً مقبولاً” مقابل التخلص من نظام بغداد المركزي.

في تحقيق مطول نشرته رويترز عام 2019، وُثّق كيف تمكّن فيلق القدس من التغلغل في أجهزة الدولة العراقية تحت مظلة الانهيار الأمني والفراغ السياسي، وسط صمت دولي واضح.

بغداد.. الصندوق المالي لطهران

ما يزيد المشهد تعقيدًا هو أن واشنطن، التي تدّعي محاصرة إيران، تغض الطرف عن التمويل غير المباشر الذي تحصل عليه طهران من العراق. ففي الوقت الذي تمنع فيه العقوبات الأميركية تحويل دولار واحد مباشرة لإيران، فإنها تسمح — بشكل رسمي ومعلن — لبغداد بدفع مليارات الدولارات سنويًا لطهران مقابل الغاز والكهرباء.

بحسب بيانات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، فقد سدد العراق ما يقارب 10 مليارات دولار لإيران خلال خمس سنوات، رغم استمرار العقوبات. هذه الأموال تمثل مصدر حياة رئيسي للاقتصاد الإيراني، وهو ما أكده أيضًا تقرير لـوزارة الخزانة الأميركية، التي منحت العراق استثناءات متكررة لتحويل هذه المدفوعات.

واشنطن لا تريد سقوط النظام الإيراني

إذا أرادت واشنطن فعلاً “خنق” إيران اقتصاديًا، فإن أي ضغط مالي حقيقي على بغداد سيكون كافيًا لتحقيق ذلك، لكن هذا الخيار غير مطروح. لأن واشنطن، في الحقيقة، لا تريد إسقاط النظام الإيراني، بل تستخدمه كأداة توازن داخل الإقليم. الباحث الإيراني الأميركي فالي نصر كتب في مجلة Foreign Affairs أن “إيران تؤدي دور العدو المفيد”، وهو توصيف يعكس حقيقة أن واشنطن تخشى من فراغ استراتيجي في حال سقوط طهران، خاصة مع غياب بديل إقليمي متماسك.

إيران: قوة تستمد شرعيتها من ضعف الآخرين

تعرف طهران تمامًا حجم دورها الوظيفي في النظام الدولي، وتستمد قوتها من معرفة أن إسقاطها ليس مطروحًا أميركيًا. لهذا السبب، ترفع شروطها بثقة، وتوسّع نفوذها في العراق وسوريا ولبنان واليمن بلا خوف من تدخل مباشر. فواشنطن لا تريد شريكًا جديدًا غير مضمون الولاء، بينما إيران تقدم خدماتها بثمن معلوم، وفق قاعدة: «نفوذ مضبوط أفضل من فوضى بديلة».

من يحاصر من؟

من يراقب العلاقات الأميركية-الإيرانية سيكتشف أن “الخصومة” المعلنة لا تعني بالضرورة قطيعة استراتيجية. بل يمكن القول إن الطرفين متفاهمان ضمنيًا على قواعد اللعبة. في الظاهر، واشنطن تفرض العقوبات؛ في الواقع، تفتح لطهران ممرات اقتصادية من بغداد. في الظاهر، إيران تهاجم النفوذ الأميركي؛ في الواقع، تحافظ على حدود الصدام تحت سقف مدروس.

رئيس الوزراء العراقي الأسبق حيدر العبادي صرّح في مقابلة مع قناة PBS الأميركية عام 2019 قائلاً: “واشنطن كانت دائمًا توازن بين معاقبة إيران وبين إبقاء العلاقات الاقتصادية العراقية الإيرانية قائمة، لأنها لا تريد أن يتحول العراق إلى ساحة تصعيد مباشرة.”

 

العلاقة بين واشنطن وطهران ليست علاقة عدوين بالمفهوم الكلاسيكي، بل هي علاقة “اعتماد متبادل مضطرب”، تُدار وفق منطق التوازنات لا المبادئ. ومن هنا، فإن السؤال الحقيقي لم يعد: هل تحاصر واشنطن إيران؟ بل أصبح: من يتوسل الآخر للإبقاء على معادلة تمنع الانفجار؟

وفي ضوء ذلك، يمكن القول إن إيران، رغم كل مظاهر العداء، تمسك بورقة بقاء النظام الإقليمي القائم، وواشنطن، رغم كل مظاهر الحصار، تتوسل استمرار دور طهران الوظيفي حتى إشعار آخر .

التعليقات معطلة.