بات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على وشك الإطاحة بالدستور العلماني، الذي أرسته الجمهورية التركية الحديثة، في إطار مشروع دستوري جديد يصفه مراقبون بأنه يستهدف إعادة صياغة هوية الدولة التركية على أسس إسلامية محافظة.
هذا ما يؤكده روبرت إليس، المستشار الدولي والباحث في معهد الدراسات الأوروبية والأمريكية في أثينا، في مقاله بموقع “ذا ناشونال إنترست” الأمريكية، حيث يتناول ما يسميه “التحول الجذري” الذي يسعى أردوغان إلى تحقيقه منذ سنوات.
دستور “مدني وليبرالي” أم نهاية العلمانية؟
أعلن أردوغان تشكيل لجنة من 10 أعضاء لصياغة ما وصفه بدستور “مدني وليبرالي”، بديلاً للدستور الذي وُضع في أعقاب انقلاب 1980.
لكن خلف هذا الوصف الليّن، يتكشّف مشروع أكثر عمقاً يستهدف تفكيك الأسس العلمانية التي أرساها مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية. فالدستور التركي الحالي يَمنع صراحة توظيف “المشاعر الدينية المقدسة” في شؤون الدولة، بينما يسعى أردوغان منذ عقود إلى دمج القيم الإسلامية في بنية الحكم، وهو ما أعلنه صراحة منذ أن كان مرشحاً لرئاسة بلدية إسطنبول عام 1994، حين قال: “أنا أومن بالشريعة الإسلامية”.
رحلة التحوّل الاستراتيجي
تعود جذور أردوغان السياسية إلى حزب الرفاه الإسلامي، الذي كان يطمح لإقامة “نظام عادل” على أسس الشريعة. وبعد حلّ الحزب عام 1998 وسجنه لمدة 4 أشهر بسبب قصيدة أثارت الجدل، بدأ أردوغان في اتباع نهج أكثر براغماتية.
ومع تأسيس حزب العدالة والتنمية عام 2001، نجح أردوغان في تقديم نفسه كوجه إصلاحي معتدل، حظي بدعم الغرب بوصفه نموذجاً ديمقراطياً “إسلامياً”، يمكن الاقتداء به.
لكن هذا المسار تغيّر تدريجياً؛ إذ استُخدمت شروط الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي لتقليص نفوذ الجيش والمُؤسسات العلمانية، ثم أُهملت فكرة التكامل الأوروبي تماماً بمجرد تحقيق هذا الهدف.
الأسلمة الزاحفة: التعليم والاقتصاد والسياسة
تدريجياً، تغلغلت القيم الإسلامية في مختلف مفاصل الحياة التركية، من التعليم إلى الاقتصاد والسياسة الخارجية. ومع صعود الإسلام السياسي، تصاعدت المقاومة الداخلية، كما حدث في احتجاجات “منتزه غيزي” عام 2013، وتكرّر مؤخراً في الاحتجاجات الشعبية المؤيدة لعمدة إسطنبول المعارض.
دعم كردي غير متوقع ومقايضات سياسية
وأوضح الكاتب أن مفاجأة العملية الدستورية تمثّلت في وجود دعم غير معلن من حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، وذلك بالتزامن مع إعلان حزب العمال الكردستاني حلّ نفسه، بعد 4 عقود من التمرد المسلح.
وعلى الرغم من تحالف أردوغان مع حزب الحركة القومية بقيادة دولت باهتشلي، يظل تمرير الاستفتاء الدستوري رهيناً بالحسابات البرلمانية الدقيقة. فحزب العدالة والتنمية يملك 321 مقعداً فقط، ويحتاج إلى 360 مقعداً لإجراء استفتاء شعبي، وهو ما يجعل مقاعد الحزب الكردي (56 مقعداً) حاسمة في هذه المعادلة.
ولفت الكاتب النظر إلى أن التوجّه نحو إعادة تفسير الشريعة كمصدر رئيس للتشريع، كما حدث في الدستور السوري الجديد، يوازيه اختفاء لافت لحقوق الأقليات. ورأى إليس أن ذلك يعكس نزعة إقليمية أوسع تُعارض النماذج الغربية للعلمانية والحكم الديمقراطي.
توتر مع الغرب وتناقض في المرجعيات الحقوقية
المفارقة تكمن، حسب الكاتب، في أن تركيا صادقت على كل من إعلان القاهرة لحقوق الإنسان في الإسلام الذي يُقيِّد حرية التعبير وفقاً للشريعة، وعلى المواثيق الغربية لحقوق الإنسان، ما يخلق حالة من التناقض الصارخ يصعب التوفيق بينها.
وأسهمت موجات الهجرة من تركيا والمنطقة نحو أوروبا في تعميق الانقسام القيمي، وأججت المخاوف من صعود تيارات محافظة تتعارض مع القيم الليبرالية الغربية.
انتقادات داخلية
رغم تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية، إذ يرى 70% من الأتراك أنه يخدم مصالح الأثرياء فقط، ورغم انتقادات رموز إسلامية بارزة مثل نجم الدين أربكان الذي وصف الحزب بأنه يُجسّد “إسلاماً سطحياً”، إلا أن أردوغان لا يظهر أي نية للتراجع.
وبلغ الرئيس التركي، البالغ من العمر 71 عاماً، مرحلة يعتبر فيها التحول الدستوري “الضربة القاضية” على إرث أتاتورك، وانتصاره الأكبر والأخير في مشواره السياسي الطويل.