محمد صلاح
حين يتابع المصريون كلام رموز الإخوان المسلمين، أو تلك الوجوه التي تطل على الفضائيات القطرية، أو الفبركات وقصص القنوات التي تُبث من الدوحة وإسطنبول ولندن، كالتسريبات الكوميدية الأخيرة، ثم تبشرهم بأن مرسي سيعود إلى المقعد الرئاسي يوم الأحد، فإنهم بالطبع يضحكون، ليس فقط سخرية من أشخاص يفترض أنهم يمارسون السياسة ويفهمونها، ولكن أيضاً لأن أعضاء الجماعة وبسطاء من الإخوان يصدقون هذا الهراء، إلا أن المسألة تتجاوز تنظيماً يسعى إلى خداع الناس أو طمأنة أعضائه أو الكذب على حلفائه. الموضوع أعمق وأكثر تعقيداً، إذ يبدو وكأن الإخوان صنعوا لنفسهم عالماً خاصاً بهم يعيشون فيه ويضعون مفرداته، ولا يصدقون ما يدور حولهم طالما أنه يخالف أمنياتهم!
ليست المرة الأولى التي يعيش فيها الإخوان المسلمون ما يعتبرونه «محنة»، فتاريخ الجماعة منذ تأسيسها في مدينة الإسماعيلية المصرية عام 1928 مليء بالعثرات والأزمات والتناقضات والصراعات مع أنظمة الحكم والحكومات، لكنها المرة الأولى التي يصنع قادة التنظيم ذلك العالم الافتراضي، ويتبعهم، بطبيعة الحال، آلاف من المغيبين الذين انضموا إلى الجماعة اعتقاداً منهم بأن الطريق إلى الجنة يمر عبر المرشد ومن حوله! دعك هنا من عشرات الناشطين، وهؤلاء الذين تطلق عليهم وسائل الإعلام النخب السياسية ممن ارتضوا أن تمتطيهم الجماعة، أو قبلوا بأن يسيروا في ركابها، فهم يدركون الواقع ومنتبهون إلى أن العالم الافتراضي للإخوان لا يناسبهم، لكنهم «يمثلون» أدواراً داخل ذلك العالم ليضمنوا لأنفسهم أماكن في المشهد، وكذلك بالطبع استمرار المكافآت والمميزات، ودعك أيضاً من دول ترعى الجماعة وتنفق عليها كقطر، أو تستقطب رموزها وتؤوي الفارين منهم كتركيا، أو حتى مراكز أبحاث ووسائل إعلام ومنظمات حقوقية غربية تدعي مكافحة الإرهاب وتنسق مع رموزه! فالمصالح تتصالح، وتجعل تلك الأطراف توحي للإخوان أنها تصدقهم، فتساهم بشكل كبير في ترسيخ ذلك العالم الافتراضي فيغرق فيه الإخوان أكثر!
حتى قبل ثورة 23 تموز (يوليو) 1952 شهدت العلاقة بين الإخوان والحكم صراعات ومواجهات وصلت إلى حد تحول الجماعة إلى العنف والإرهاب والاغتيالات، لكن التنظيم بقي يتعامل مع واقع، ويتعاطى مع الحكم بحسب موازين القوى في المجتمع، ويدرك حجمه بالنسبة لمؤسسات الدولة ووزنه بالنسبة للشارع وتأثيره فيه، وحتى في صدام الإخوان مع العهد الناصري ظلت الجماعة تناور أحياناً، وتتحالف في أحيان أخرى، وتصطدم حين تجد أن لا أمل في المشاركة في الحكم، وتضرب حين تصل إلى مرحلة يأس، لكن قادتها احتفظوا بقدر من البرغماتية، وتعاملوا مع الواقع وخلصوا إلى أنهم مجرد «دعاة لا قضاة» بحسب الكتاب الشهير الذي وضعوه أثناء وجودهم في السجون، ربما لحرصهم على بقاء التنظيم رغم المحنة، أو مناورة منهم حتى تمر العاصفة وتتغير الظروف.
المطلعون على التفاصيل التي سبقت أحداث 25 كانون الثاني (يناير) 2011 يعرفون أن الإخوان، وإن كانوا مهدوا للاضطرابات، إلا أنهم ظلوا خلف الصورة، واحتفظوا بعناصرهم بعيداً عن المواجهات، ولم يأمروهم بالنزول إلى الشوارع والميادين إلا يوم 28 من الشهر ذاته، بعدما تأكدوا أن أعداداً كبيرة من المصريين سبقوهم، ثم طوروا الأوامر للهجوم على المؤسسات العامة واقتحام السجون وحرق أقسام الشرطة، لتنهش الفوضى البلد ويسود الارتباك وتنهار المؤسسات ويأتي المناخ الذي أتاح للجماعة بعد ذلك القفز فوق الجميع واقتناص السلطة!
صحيح أن الإخوان ارتكبوا أخطاء فادحة بعدها، وتنافسوا فيما بينهم على الإسراع بأخونة الدولة ومؤسساتها، ودخلوا في صدامات مع الجيش والشرطة والقضاء والإعلام وفئات المجتمع، وتنكروا لحلفائهم من القوى الليبرالية واليسارية بينما دعموا التعاون مع المتطرفين من الجماعات الراديكالية، لكنها كانت تصرفات تعكس حقيقة الجماعة وتتوافق مع مبادئها وتاريخها وحساباتها الخاطئة التي كانت تفضي كل مرة إلى هزيمتها.
أصابت ثورة الشعب المصري على حكم الجماعة عقل التنظيم، وساهمت أطراف خارجية كقطر وتركيا والجهات الغربية في تغييب الوعي لدى قادته الذين نجحوا في تبرئة أنفسهم أمام أتباعهم، وفشلوا في إنقاذ الجماعة من مصير محتوم، فكانت النتيجة نفور الناس وعزوفهم عن كل ما هو إخواني، وصار التنظيم منبوذاً إلا من أعضائه وحلفائه والجهات المحركة له والمستفيدين من غياب عقله وضياع وعيه، لتدخل الجماعة إلى حالة مزرية تعيشها ووهم كبير تمارسه وتعتقد، ومعها أعضاؤها، أنه الواقع والحقيقة!