تشكيك علمي في جدواه
قد يبدو الأمر غريباً بعض الشيء، إذ تثير طريقة للمساعدة الذاتية تُسمى «النقر»، استياء بعض اختصاصيي الصحة النفسية.
أسلوب «النقر»
يقوم أسلوب «النقر (tapping)» على استخدام أطراف الأصابع للضغط على نقاط معينة من الجسم (على نحو يشبه الضغط بالإبر)، جنباً إلى جنب، مع أساليب مواجهة المشاعر السلبية عبر إجراء تمارين التنفس، وتكرار التأكيدات الإيجابية.
وعن هذا الأسلوب، قالت إحدى النساء عبر تطبيق «تيك توك»، خلال ممارستها له: «أنا بأمان في سيارتي. أنا في ملاذي الآمن»، مستخدمةً أصبعها للنقر على أعلى رأسها، ثم على جانب حاجبها، ومنتصف ذقنها.
في الفيديو، أوضحت السيدة أن القيادة بمفردها تُشكل تحدياً كبيراً لها، لكن أسلوب «النقر» ساعدها على تخفيف قلقها، وجمع شتات أفكارها.
في الواقع، من السهل العثور على قصص مماثلة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فعلى مدار نحو الـ15 عاماً الماضية، ظهر «النقر» في مدونات الصحة و«البودكاست» والبرامج التلفزيونية… وحتى قوائم الكتب الأكثر مبيعاً. وعليه، اجتذبت هذه الممارسة، المعروفة كذلك باسم «أسلوب التحرر العاطفي (Emotional Freedom Technique or EFT)»، قاعدةً واسعةً من المتابعين، وأصبحت تجارةً رائجةً. ومع ذلك، لا تزال الشكوك تساور كثيراً من الخبراء حيالها.
«علم نفس الطاقة»
من أين جاء أسلوب «النقر»؟ نشأ «النقر»، الذي يندرج تحت مظلة «علم نفس الطاقة»، من أسلوب يسمى «العلاج بحقول التفكير (Thought Field Therapy)» جرى تطويره على يد عالم النفس روجر كالاهان، في ثمانينات القرن الماضي. (وفق «ويكيبيديا» فإنه علاج نفسي هامشي يزعم مؤيدوه أنه قادر على شفاء مجموعة متنوعة من الأمراض العقلية والجسدية من خلال «النقر» المختص بواسطة الأصابع على نقاط خطوط الطول في الجزء العلوي من الجسم واليدين – المحرر).
وابتكر كالاهان هذا الأسلوب خلال عمله مع مريضة تعاني من رهاب شديد من الماء، حاول كالاهان علاجه بطرق شتى، بما في ذلك العلاج بتعريض المريضة إلى مواقع تقع إلى جانب المسبح.
في أحد الأيام، عندما اشتكت المريضة من أن مجرد النظر إلى الماء يُسبب لها ألماً في المعدة، طلب منها كالاهان النقر بقوة تحت عينها؛ وهي منطقة كان يعلم أنها مرتبطة بـ«خط طاقة المعدة» وفق الطب الصيني التقليدي.
ووفق كالاهان، فبعد دقيقتين من النقر، قالت المريضة إن ألم معدتها قد اختفى، ومعه اختفى خوفها من الماء.
ومن هنا، طور كالاهان العلاج بـ«حقول التفكير»، مشيراً إلى أن بعض المرضى يحتاجون إلى لمس سلسلة من نقاط الضغط بترتيب محدد.
ومع ذلك، شكك خبراء بمجال علم النفس في مصداقية «العلاج بحقول التفكير»، الأمر الذي يعود إلى أسباب أبرزها عدم وجود طريقة لقياس خطوط الطاقة، أو أي دليل يثبت وجودها من الأساس.
في تسعينات القرن الماضي، أعاد غاري كريغ، خريج جامعة ستانفورد، الذي أصبح لاحقاً قساً مرسماً، صياغة هذا الأسلوب، مبتكراً نسخة مُبسطة تُسمى «أسلوب التحرر العاطفي».
ويرى أنصار هذا الأسلوب أن «النقر» لا يسهم في تقليص التوتر والقلق فقط، وإنما يحسن كذلك أعراض الاكتئاب، واضطراب ما بعد الصدمة، والإدمان، والآلام المزمنة… وغيرها من الأمراض.
واليوم، يدفع ممارسون مئات الدولارات للحصول على دورات تدريبية في مجال «أسلوب التحرر العاطفي»، أو نيل شهادات رسمية في هذا المجال.
أبحاث مشكوك فيهارغم نشر ما يزيد على 200 دراسة عن فاعلية النقر على خطوط الطاقة بالجسم، فإن هذه المجموعة من الأبحاث ليست بالقوة التي قد تبدو عليها لأول وهلة. ويعود ذلك إلى أن الأبحاث التي ادعت إثبات فاعلية «أسلوب التحرر العاطفي»، كان يشوبها تضارب المصالح، وصغر حجم العينات، والأخطاء الإحصائية، ونقص الدقة.
ولذلك، صرح أعضاء بارزون في «الجمعية الأميركية لعلم النفس» بأن مساعي الترويج لـ«أسلوب التحرر العاطفي» قائمة على علم زائف.
في هذا الصدد، قالت كاساندرا بونيس، الأستاذة المساعدة بمجال علم النفس بجامعة نيو مكسيكو: «عندما نمعن النظر في الأدلة المطروحة، نجدها تتهاوى».
يذكر أن بونيس هي المؤلفة الرئيسية لتعليق بشأن الأمر، خضع لمراجعة النظراء ونُشر عام 2024، أثار القلق بشأن جودة أبحاث «أسلوب التحرر العاطفي»، وشكك في جدوى مسألة التركيز على المشاعر.
ومع ذلك، نبه خبراء إلى أن هذا لا يعني أن «أسلوب التحرر العاطفي» عديم الجدوى. وأشاروا إلى أنه يطلب ممن يجرب هذا الأسلوب التفكير في نشاطات قد يجدها مخيفة أو غير مريحة، أو حتى الاضطلاع بها، مما يعد شكلاً من أشكال العلاج بالتعرض، وهو وسيلة فعّالة لتنظيم المشاعر. كما يتضمن «النقر» كذلك تكريس لحظة لاستكشاف أفكار المرء، الأمر الذي يقول معالجون إنه يمكن أن يعين الناس على فهم سلوكهم.
من جهته، قال ديفيد تولين، مدير «مركز علاج اضطرابات القلق» التابع لـ«معهد الحياة (إنستيتيوت أوف ليفينغ)» بهارتفورد في كونيتيكت: «في جوهره، يشكل (النقر) مزيجاً من التدخلات، بعضها، على حدّ علمي، فعّال للغاية». وأضاف أنه لا توجد أبحاث عالية الجودة تُثبت أن «النقر» نفسه هو العنصر الفعّال في الأمر.
بين العلم والاحتيال
رغم ضعف الأدلة، فإن بعض المرضى والمعالجين يُصرّون على أن النقر يُساعد حقاً.
في هذا السياق، أقر ديفيد فينشتاين، الذي يُقدّم مع زوجته دوراتٍ وشهاداتٍ في مجال طب الطاقة: «إنه لا يُغني عن أفضل الممارسات المُتبعة لعلاج اضطراب ما بعد الصدمة، أو الاكتئاب، أو الإدمان، أو غيرها من الحالات الخطيرة» إلا إنه يرى أنه يُمكن أن يجعل هذه العلاجات أكثر فاعلية.
وقالت ميليسا ليستر، وهي معالجة نفسية في «ساندي سبرينغز» بجورجيا، إنها اكتشفت أن «النقر» يُمكن أن يُقدّم فوائد سريعة، بما في ذلك عقلاً أفضل هدوءاً وصفاءً.
من جهتها، قررت بونيس الحصول على شهادة في هذا الأسلوب، انطلاقاً من رغبتها في أن توفر لعملائها بديلاً، عندما لا تُحقق أساليب العلاج الأخرى، مثل العلاج السلوكي المعرفي، النتائج المرجوة.
وقالت بونيس إن تقديم علاج بديل قد يكون مفيداً للمرضى، لكنها تساءلت عما إذا كان الاضطلاع بذلك، في ظل غياب أدلة علمية دقيقة، أمراً أخلاقياً.
وأضافت أن «أكبر مخاوفها» أن يلجأ الأشخاص الضعفاء إلى «النقر»، ثم يكتشفون أنه غير فعال. وقالت: «إنه ليس علاجاً نفسياً في الواقع».
* خدمة «نيويورك تايمز»