قوبل اختيار كامل إدريس بتوجس عميق من قوى الهامش باعتباره نخبوياً يعيد إنتاج هيمنة المركز تحت لافتة الإصلاح
منى عبد الفتاح
رئيس الوزراء السوداني الجديد أمام شبكة من التعقيدات في واقع الحرب (سونا)
ملخص
هذا الانقسام يعكس هشاشة البنية السياسية التي خلفها اتفاق السلام في ظل غياب مؤسسات ضامنة، ويعيد إلى الواجهة الأسئلة الجوهرية حول من يملك حق تعريف الشراكة، وعلى أي أسس توزع السلطة بلا عقد اجتماعي جامع.
كشف إعلان الحكومة السودانية تعيين كامل إدريس رئيساً للوزراء عن عودة التوترات مع الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق “جوبا للسلام”، لا سيما أن الخطوة تبدو كمحاولة لاستعادة توازن سياسي هش تحت وطأة الحرب والانقسامات السياسية والتنافس على المواقع والنفوذ في وزارات الحرب. فمنذ القرارات التي فرضها قائد الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان، التي قضت بحل حكومة عبدالله حمدوك في أكتوبر (تشرين الأول) 2021 وفض الشراكة مع “قوى الحرية والتغيير”، دخل السودان في حال من الفراغ التنفيذي والاضطراب الدستوري، أفرزت واقعاً انتقالياً مأزوماً. وأدى هذا الانقطاع في المسار الانتقالي إلى إضعاف ثقة الشركاء المحليين والداعمين الدوليين، وأعاد إنتاج مناخ الإقصاء والتجاذب السياسي الذي ظن كثر أن الاتفاق قد طوى صفحته، إلى أن أفضى إلى الحرب الدائرة الآن.
رئيس الوزراء الجديد وصف بغير المنتمي سياسياً، إلا أنه في الواقع قد تشكل انتماءاته السابقة للحزب الشيوعي السوداني والجبهة الديمقراطية والاتحاد الاشتراكي، إشكالاً لأعضاء النظام السابق داخل مؤسسة الجيش. وهناك زعم بأن تياراً منفصلاً عن نظام الرئيس السابق عمر البشير دعم ترشحه ضده للرئاسة عام 2010، كذلك فإن هناك أحزاباً سياسية رافضة تعيينه مثل حزب “الأمة”، الذي يرى التعيين “انتهاكاً للوثيقة الدستورية”.
ترى أطراف “اتفاق جوبا”، ولا سيما حركة “العدل والمساواة” بقيادة جبريل إبراهيم وزير المالية الحالي، وحركة “تحرير السودان” بقيادة مني أركو مناوي حاكم إقليم دارفور، في الحديث عن “حكومة كفاءات مستقلة” محاولة مبطنة لتقليص نفوذها السياسي وتفريغ الاتفاق من مضامينه. وتتصاعد الخلافات داخل الكتلة الدارفورية نفسها، إذ أبدت بعض القيادات المنشقة مرونة تجاه رؤية إدريس القائمة على تقديم السير الذاتية من دون تحديد مسبق للمناصب، في حين تمسكت قيادات أخرى بمواقعها في وزارات معينة، معتبرة إياها جزءاً لا يتجزأ من استحقاق انتُزع بثمن باهظ. هذا الانقسام يعكس هشاشة البنية السياسية التي خلفها اتفاق السلام في ظل غياب مؤسسات ضامنة، ويعيد إلى الواجهة الأسئلة الجوهرية حول من يملك حق تعريف الشراكة، وعلى أي أسس توزع السلطة بلا عقد اجتماعي جامع.
خلافات الشراكة
بعد أدائه القسم في مطلع يونيو (حزيران) الماضي، أعلن كامل إدريس حل الحكومة الانتقالية المكلفة منذ يناير (كانون الثاني) 2022، وكلف الأمناء العامين ووكلاء الوزارات بتسيير المهام التنفيذية موقتاً إلى حين تشكيل حكومة جديدة. وعلى رغم أن هذا الإجراء قدم كخطوة إدارية روتينية لتدشين مرحلة جديدة، فإنه فجر خلافاً سياسياً حاداً داخل مكونات السلطة، ولا سيما الحركات المسلحة الموقعة على “اتفاق جوبا”، التي اعتبرت القرار انتهاكاً لنصوص الاتفاق، ومهدداً للتوازنات الهشة التي قامت عليها الشراكة بين المكونين العسكري والمدني.
2 (5).jpg
شدد مني أركو مناوي على ضرورة حسم طبيعة الشراكة أولاً (اندبندنت عربية- حسن حامد)
تزامن قرار إدريس مع شروعه في الإعداد لتشكيل حكومة “تكنوقراط مستقلة”، وهو ما أثار حفيظة قوى الهامش، بخاصة حركتا “العدل والمساواة” و”تحرير السودان”، اللتان نظرتا إلى الطرح كغطاء سياسي لإعادة هيكلة السلطة بعيداً من التزامات “اتفاق جوبا”. فقد أكد جبريل إبراهيم أن قرار الحل تم من دون مشاورة الحركات المسلحة، معتبراً أنه يمهد لتقليص تمثيل حركته في السلطة التنفيذية، ويقوض الثقة في مسار الانتقال السياسي. كذلك حذر من تجاوز ما نص عليه الاتفاق من منح الحركات 25 في المئة من المناصب، بما يشمل ست وزارات، وثلاثة مقاعد في المجلس السيادي، وعدداً من ولاة الولايات.
أما مني أركو مناوي، فقد صعد من لهجته عقب لقائه البرهان في بورتسودان، مشدداً على ضرورة حسم طبيعة الشراكة أولاً، رافضاً ما وصفه بمحاولة تفريغ السلطة من مضمونها السياسي بحجة الكفاءة والتكنوقراط. فتصريحه “بلا شراكة، لا معنى لتقاسم السلطة” يختزل المعضلة في سؤال جوهري: من يملك الشرعية في مرحلة انتقالية لا تستند إلى انتخابات.
تبدو مهمة إدريس معقدة، ولا يكمن ذلك في تشكيل حكومة جديدة فحسب، بل في إدارة تناقضات سلطة انتقالية متشظية، يختلط فيها ما هو سياسي بما هو قانوني، فالتفسيرات المتباينة لنصوص “اتفاق جوبا”، بين من يتمسك بنسبة رمزية ومن يطالب بتمثيل نوعي في وزارات سيادية، تعكس عمق المأزق.
منحى تصاعدي
لم تعد احتجاجات أطراف “اتفاق جوبا” حبيسة المواقف المكتوبة أو التحذيرات المبطنة، بل اتخذت منحى تصاعدياً يعكس عمق الشرخ بينها وبين رئاسة الوزراء. ففي سلوك يختزل منسوب التوتر، انسحب مناوي، من اجتماع رسمي مع رئيس الوزراء كامل إدريس قبل بدئه، متهماً جهات “لم يسمها” بتزوير مضامين اجتماعات سابقة، وقيادة حملة تشويه إعلامية ضده، في إشارة إلى ما يعتبره استهدافاً سياسياً مقنعاً. كذلك عبر قياديون آخرون، عن رفضهم الصريح أي صيغة حكومية تتجاوز دورهم من دون تنسيق أو تفاهم مسبق، معتبرين ذلك انقلاباً ناعماً على معادلة الشراكة.
اقرأ المزيد
البرهان يعين كامل إدريس رئيسا لحكومة السودان
عماد البليك يستجلي أزمة الهوية السودانية
مقاتلات الجيش السوداني تحبط محاولة لـ”الدعم السريع” لتطويق الفاشر
السوق السوداء تبتلع اقتصاد السودان في عتمة الحرب
في مقابل هذا التصعيد، يتمسك إدريس بخطاب يعيد تعريف الاستحقاق الوطني، لا بوصفه مكافأة تنظيمية، بل كفاءة تستحق التمكين، وعدالة تتجاوز أوزان المحاصصة. غير أن هذا الطرح، الذي يستند إلى منطق الدولة الحديثة، قوبل بتوجس عميق من قوى الهامش التي ترى فيه خطاباً نخبوياً يعيد إنتاج هيمنة المركز تحت لافتة الإصلاح. وتذهب بعض الأصوات إلى التحذير من أن تجاوز هذا التوازن الدقيق قد يفتح الباب أمام انهيار الاتفاقات السابقة، ويعيد البلاد إلى مربع الصراع المسلح، بعدما بدا أن “اتفاق جوبا” مهد لمسار تسوية هش لا يحتمل المغامرات الأحادية.
من جهته، يواجه إدريس معضلة مزدوجة، كيف يؤسس لحكومة فاعلة ونزيهة من دون أن يقوض بنيان السلام القائم على معادلات معقدة من الرضا السياسي والتنازلات المتبادلة. فدعواته إلى استقطاب الكفاءات لن تجد صداها إن لم ترفق برؤية سياسية تدمج بين مقتضيات الإصلاح وموازين القوى، ولو موقتاً، في مرحلة انتقالية بلا تفويض انتخابي.
وفي شرق السودان بدأت الاحتجاجات تتسرب من الهامش إلى العلن، مع تصاعد الخطاب الإقليمي الرافض لما وصف بـ”تهميش القرار الشرقي”، مما ينذر بتوسع رقعة الاستقطاب الجهوي. وهكذا، يتبين أن تشكيل “حكومة تكنوقراط” في السودان ليس قراراً إدارياً فحسب، بل اختبار وجودي لطبيعة الدولة.
فخ المحاصصة
أبرز التحديات التي تواجه كامل إدريس تتمثل في تشكيل حكومة قادرة على استعادة الثقة من دون السقوط في فخ المحاصصة، في وقت تطالب الحركات المسلحة الموقعة على “اتفاق جوبا” للسلام بالاستمرار في الاستحقاقات حتى نهاية الفترة الانتقالية. وإضافة إلى حركتي جبريل ومناوي، هناك “الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال” بقيادة نائب رئيس مجلس السيادة مالك عقار، وتطالب هذه الحركات بالحفاظ على وزاراتها، مثل المالية والمعادن والشؤون الإنسانية، وهو ما يضع الحكومة الجديدة أمام اختبار صعب بين الاستجابة لمطالب السلام واحترام الكفاءة والاستقلالية.
بموازاة ذلك، تنشط جماعات مسلحة تدعم الجيش، مثل “درع السودان” بقيادة أبو عاقلة كيكل، و”لواء البراء بن مالك” المرتبط بتنظيم “الإخوان المسلمين” في الساحة العسكرية والسياسية، ويسعى إلى الحصول على تمثيل سياسي على رغم رفض الدوائر الحكومية هذه المطالب حتى الآن، كذلك يتهم التنظيم بممارسة نفوذ متزايد داخل المؤسسة العسكرية، وقيادة وحدات من “قوات الدفاع الذاتي” ضد قوات “الدعم السريع”، وهو ما يثير مخاوف من عودة هيمنة التيار الإسلامي عبر الميليشيات المتحالفة مع الجيش.
3 (3).jpg
أكد جبريل إبراهيم أن قرار حل الحكومة تم من دون مشاورة (اندبندنت عربية- حسن حامد)
وفيما ترددت أنباء عن انسحاب “القوة المشتركة” من المثلث الحدودي مع ليبيا ومصر في يونيو (حزيران) الماضي، بعد هجوم شنته “الدعم السريع” احتجاجاً على غموض مستقبل تقاسم السلطة، يبقى على إدريس أن يثبت قدرته على قيادة المرحلة بوعي سياسي يوازن بين مقتضيات الإصلاح وضرورات الشراكة.
لكن ما يواجهه إدريس يتجاوز ذلك بكثير، فاقتصادياً يشهد السودان انهياراً في البنية التحتية المالية، وتراجعاً في قيمة العملة، وشحاً حاداً في السلع الأساسية، وانهيار الوضع الصحي، وسط انسحاب تدرجي للمساعدات الدولية، وهرب الاستثمارات الأجنبية. وعلى المستوى الاجتماعي تفاقمت معاناة المواطنين مع اتساع رقعة النزوح، وتزايد معدلات الفقر والبطالة، فضلاً عن تفكك النسيج الاجتماعي بسبب الاستقطاب السياسي والتصعيد الإثني.
أمنياً، يرزح المشهد تحت تهديد التمدد المتسارع للميليشيات، وتنامي اقتصاد الحرب، وتراجع سيطرة الدولة على أطرافها، مقابل صعود قوى محلية باتت تتحكم في الموارد والمعابر والموانئ البرية. كذلك تواجه الحكومة الجديدة تحديات عسكرية مرتبطة بضعف التنسيق بين المكونات المسلحة المنضوية تحت لواء الجيش، وتزايد التوتر بين القادة العسكريين، إلى جانب تحركات إقليمية قلقة من مستقبل السودان وموقعه في المعادلات الجيوسياسية للبحر الأحمر وحزام الساحل والصحراء.
سيناريوهات محتملة
تبرز أربعة سيناريوهات لرسم ملامح المرحلة المقبلة: الأول، المحافظة على الوضع القائم جزئياً بأن تستجيب الحكومة الجديدة لمطالب الحركات المسلحة، لا سيما “العدل والمساواة”، و”تحرير السودان” جناح مناوي، عبر الإبقاء على الوزارات التي تسيطر عليها منذ توقيع “اتفاق جوبا”، بما يعزز شراكتها مع الجيش ويجنب انفجار الخلاف. إلا أن هذا السيناريو، وإن بدا مهدئاً، قد يفاقم استياء قوى سياسية مدنية تعتبر هذه المحاصصة امتداداً لحقبة الترضيات العابرة، ويقوض مساعي الإصلاح المؤسسي.
السيناريو الثاني يقضي بالتوصل إلى اتفاق وسط يراعي تمثيل الحركات المسلحة ضمن حكومة موسعة، لكن مع تقليص سيطرتها النوعية، وضخ شخصيات مستقلة أو ذات كفاءة فنية في وزارات استراتيجية، يمثل هذا السيناريو محاولة ربط الاستقرار السياسي بالإصلاح الإداري، ويحتمل أن ينال دعماً إقليمياً ودولياً، غير أنه يتطلب مشاورات دقيقة ومبادرة شجاعة من رئيس الوزراء لإعادة هندسة الثقة من دون المساس بجوهر “اتفاق جوبا”.
والسيناريو الثالث يتمثل في تشكيل حكومة مختلطة تضم تكنوقراطاً وسياسيين، مع إعادة توزيع الحقائب بين الحركات المسلحة وقوى مدنية تقليدية، ورفض مطالب التوسع لبعض الحركات الهامشية أو الجماعات المسلحة الجديدة. ويوازن هذا السيناريو بين الانفتاح والصرامة، لكنه مشروط بقدرة رئيس الوزراء على فرض رؤيته من دون الاصطدام المباشر مع المؤسسة العسكرية أو الحركات ذات النفوذ الميداني.
أما السيناريو الرابع فهو انهيار “اتفاق جوبا”، وانسحاب بعض الحركات المسلحة من التحالف العسكري، بل والانفتاح على خيار الانضمام لقوات “الدعم السريع”، كما فعلت “الحركة الشعبية” جناح عبدالعزيز الحلو. وفي هذا الإطار يشكل انتظام قوى مثل جبريل ومناوي في جبهة مضادة للحكم المركزي خطراً على وحدة المؤسسة العسكرية وقدرتها على الصمود، وهو ما يعيد إنتاج الانقسام الوطني بصيغة أكثر حدة.