رسالة عتاب إلى الجاحظ!

3

حين تناقش الواحد منهم عن خواء نصه من الأفكار الجادة والمثيرة يخرج لك من قبعته السحرية مقولتك أيها المعلم “المعاني مطروحة في الطريق”

الأفكار الكبيرة التي هي روح النص علينا تصيّدها في قراءة النصوص الخالدة المعقدة والمقلقة كنصوصك أيها المعلم (اندبندنت عربية)

أبا عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، أيها المعلم الجليل، أدعوك بالمعلم مع أنك كنت دائماً لا تحب مهنة المدرس، نعم أيها المعلم بالمفهوم الذي يطلق على أرسطو، عمت صباحاً أو عمت مساء.

ولأنك رمز العقل والجدل والاجتهاد والجرأة، أكتب إليك اليوم لأعاتبك على مقولة كثيراً ما ضللت النخب، مقولة كلما ذكر اسمك في محفل إلا وذكرت ملحقة به، حتى أصبحت على ألسنة النخب من الجامعيين والنقاد والأدباء والمثقفين، لا يتوقف الواحد منهم عن الاستشهاد بها في كل مكان وفي كل حال، نعم، ألست أنت القائل “المعاني مطروحة في الطريق”؟

هذه المقولة، أيها المعلم الذي لا يحب مهنة المدرس، شوشت على طريق نخبنا كثيراً، نشرت بعض الفوضى في ما بقي من بقية أفكار في أدمغة أحفادك الضائعين المتهافتين.

حين تناقش الواحد منهم عن خواء نصه من الأفكار الجادة والمثيرة، وتكشف له إقامته أدبياً داخل لعبة من قواقع الألفاظ وهراء الإنشاء، يخرج لك على الفور من قبعته السحرية مقولتك أيها المعلم “المعاني مطروحة في الطريق”، يقول ذلك باستخفاف بالأفكار، يقول ذلك، كل ذلك، لكي يخفي الخواء الفكري الذي يعانيه نصه، محاولاً جرّ انتباهك إلى لعبة اللغة الفارغة.

صحيح، أيها المعلم، “الشأن (في الأدب) إقامة الوزن وتخيّر اللفظ” لأن الأدب لغة وبناء وموسيقى، لكن لا لغة ولا بناء ولا موسيقى يمكنها أن توجد أو تعيش بصحة جمالية عالية في غياب مصفوفات من الأفكار والفلسفات القائمة على التمحيص والنقد والتدقيق والمراجعة والمقارنة.

والسؤال المحيّر، أين يجد صاحب “الشأن في إقامة الوزن وتخيّر اللفظ” تلك الأفكار الضرورية التي تشكل روح النص والتي من دونها يظل هيكلاً أو كمشة من قواقع فارغة برنين أصم؟”.

أيها المعلم، يا أبا عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، في زمننا الثقافي والفكري والإبداعي هذا، الطرقات أصبحت مخيفة، مقفرة، لا أفكار فيها ولا شجر، ولم تعُد المعاني مطروحة على أرصفتها التي احتلها المهمشون والمهربون والمتحرشون بالنساء والبطالون.

الأفكار الكبيرة المجتهدة التي هي روح النص وعماده علينا البحث عنها في مظان الكتب العظيمة، علينا تصيدها في قراءة النصوص الخالدة المعقدة والمقلقة كنصوصك أيها المعلم، يا أبا عثمان الجاحظ، وعلينا أيضاً البحث عنها في الحياة حين نمتلك لذلك سبيلاً وهو التحكم في منهج قراءة ما يحيط بنا.

زمن التفاهة والعقم

التفاهة يا أبا عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، تحاصرنا وتغرقنا وتجرفنا من كل الجهات.

في زمننا هذا، نعم، لقد أصبحت “التفاهة” ماكينة سحرية لتفريخ “الأفكار” ووضعها بغزارة على الطرقات التي نسلكها صباح مساء، نسلكها في الواقع حيث الشوارع والأزقة والحارات والساحات العمومية والأسواق، ونسلكها في الافتراضي على الشاشات من خلال وسائل التواصل الاجتماعي التي أضحت وسائل التفكك الاجتماعي.

في زمننا هذا، يا أبا عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، من السذاجة التي ما بعدها سذاجة أن يجد الكاتب الأفكار على طرقات مشبوهة ومشلولة، صيد الأفكار كصيد المحار أو أصعب.

مرات، يا أبا عثمان الجاحظ، أتساءل من الأسبق في صناعة النص الجميل والخالد، الفكرة أم الصياغة؟

يبدو لي أن الفكرة، في غالب الأحيان والأحوال، هي رحم الصياغة، هي نوتات موسيقى النص ومتقنة اللغة ومنحت البناء العام، وكلما كانت الفكرة أصيلة وجديدة ومثيرة وواضحة ومتحكماً فيها بصورة بارعة استطاعت أن تدير نظام الكلام على أصوله وترتيب سلسلة الكتابة كما يجب، الكاتب القدير هو من له سحر القدرة على تشبيك حقيقي داخلي بين المعنى/ الفكرة من جهة، واللغة/ النص من جهة ثانية.

التعليقات معطلة.