القوة تبطل الحق

1

الانهيار الكارثي للمعايير التي تحظر استخدام القوة

الاعتماد المفرط على القوة دون تطوير الردع الفعّال يقوّض القانون، ويمنح التفوق لمن يستطيع كسر قواعده (فورين أفيرز)

ملخص

تهديدات ترمب بالاستيلاء على أراضٍ كغزة وغرينلاند تعكس تحوّلاً خطيراً نحو إحياء شرعية الغزو وإضعاف حظر استخدام القوة، وهو ما يهدد بانهيار النظام الدولي الذي رسخته معاهدة كيلوغ-بريان وميثاق الأمم المتحدة. استمرار هذا التآكل قد يعيد العالم إلى عصر تفصل فيه المدافع النزاعات وتُفرض فيه الاتفاقات بالقوة.

في الأشهر الأولى من عودته إلى البيت الأبيض، هدد الرئيس الأميركي دونالد ترمب باستخدام القوة العسكرية للسيطرة على جزيرة غرينلاند وقناة بنما، وأشار إلى أن الولايات المتحدة يمكن أن تستولي على غزة بعد طرد مليوني فلسطيني، وطالب أوكرانيا بالتخلي عن أراضيها لمصلحة روسيا مقابل وقف إطلاق النار. قد تبدو هذه التصرفات والتصريحات مجرد أمثلة أخرى على خطاب ترمب المعتاد، المتسم بالمبالغة والتوسع في إطلاق التصريحات، لكنها في الواقع، تشكل جزءاً من هجوم منسق على مبدأ راسخ في القانون الدولي: وهو أن على الدول الامتناع عن التهديد باستخدام القوة العسكرية أو استخدامها فعلياً ضد دول أخرى لحل النزاعات.

قبل القرن العشرين، كان الفقهاء القانونيون يرون أن من حق الدول شن حرب للاستيلاء على أراضي الآخرين ومواردهم، بل وكان ينظر إليه في بعض الحالات على أنه واجب مشروع. اعتبرت الحرب قانونية ووسيلة رئيسة لفرض الحقوق الوطنية وحل النزاعات بين الدول. لكن كل ذلك تغير في عام 1928، عندما وقعت غالبية دول العالم على معاهدة كيلوغ-بريان، متفقة على أن الحروب العدوانية يجب أن تكون غير قانونية وأن غزو الأراضي يجب أن يكون محظوراً. وقد أعاد ميثاق الأمم المتحدة لعام 1945 تأكيد هذا الالتزام وتوسيعه، وجعل حظر “التهديد باستخدام القوة أو استخدامها ضد سلامة أراضي دولة أخرى أو استقلالها السياسي” مبدأ أساسياً. وبعد أن اكتشفت الدول أن مجرد الاتفاق على حظر الحرب لم يكن كافياً في حد ذاته، بذلت جهوداً استثنائية لتصميم أطر ومؤسسات لترسيخ هذه القاعدة الأساسية، مما أدى إلى إنشاء نظام قانوني جديد أعطى الأولوية للأدوات الاقتصادية على حساب القوة العسكرية لضمان السلام.

ونتيجة لذلك، أصبحت الحروب بين الدول أقل شيوعاً بكثير. ففي الأعوام الـ65 التي أعقبت التسويات الأخيرة للحرب العالمية الثانية، انخفضت المساحات التي استولت عليها دول أجنبية سنوياً إلى أقل من ستة في المئة مما كانت عليه على مدى أكثر من قرن قبل تجريم الحرب لأول مرة على مستوى العالم. وتضاعف عدد الدول ثلاث مرات منذ عام 1945 وحتى اليوم، إذ لم تعد الدول تخشى أن تبتلعها جاراتها الأقوى. وتاجرت الدول بين بعضها البعض بحرية أكبر، مع إدراكها أن الثروات التي تجنيها أقل عرضة للنهب من جانب دول أخرى. وهكذا أصبح العالم أكثر سلاماً وازدهاراً.

لكن تأثير حظر استخدام القوة بدأ يضعف حتى قبل عودة ترمب إلى السلطة. ففي عام 2003، غزت الولايات المتحدة العراق، مبررة الحرب بادعائها أن البلاد تمتلك أسلحة دمار شامل لم تكن موجودة؛ وعلى مدى العقد الماضي، كانت الصين تبني قواعد عسكرية في مناطق متنازع عليها في بحر الصين الجنوبي؛ أما الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا في عام 2022، فقد تسبب في اندلاع أكبر حرب برية في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. لكن ترمب يحطم ما تبقى من هذا المبدأ الراسخ ضد استخدام القوة. حتى الآن، لعبت الولايات المتحدة دوراً حاسماً، وإن كان غير مثالي، في الحفاظ على النظام القانوني لما بعد الحرب العالمية الثانية والدفاع عنه. ولم يكن صمود هذا النظام مرهوناً بالامتثال التام للقانون الدولي، بقدر ما كان معتمداً على وجود مجموعة من التوقعات المشتركة حول كيفية تصرف الدول الأخرى: فحتى إن لم تكن دولة ما ملتزمة بميثاق الأمم المتحدة لحظر استخدام القوة، فإنها كانت تدرك أن خرق هذا المبدأ سيقابَل غالباً بالإدانة والعقوبات وربما حتى بتدخل مشروع من الولايات المتحدة وحلفائها.

أما الآن، فقد تبدد هذا التوقع. فترمب لا يكتفي بالتخلي عن الدور التقليدي للولايات المتحدة في الدفاع عن مبدأ حظر الحرب والغزو، بل يبدو أنه يطمح إلى ما هو أبعد: إعادة الحرب أو التهديد بها كوسيلة رئيسة لحل خلافات الدول والسعي إلى تحقيق مكاسب اقتصادية. وقد بدأت دول أخرى بالفعل تبدي قبولاً لفكرة تغير القواعد. فقد بدا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يؤيد تأملات ترمب بشأن غزة، وبطريقة موازية اختارت بنما استرضاء الرئيس الأميركي عن طريق قبولها رحلات ترحيل لأشخاص غير بنميين وتوقيع اتفاق يسمح للولايات المتحدة بنشر قوات عسكرية على طول قناة بنما. وفي ظل تهديدات ترمب بالسماح للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بضم أجزاء من أوكرانيا، وقعت كييف اتفاقية مع واشنطن تمنح الولايات المتحدة حق الوصول إلى مواردها الغنية من المعادن. في الواقع، إذا لم يوضع حد لتآكل الحظر المفروض على استخدام القوة، ستعود الجغرافيا السياسية إلى صراع بدائي يستند إلى القوة العسكرية. وستكون العواقب وخيمة: سباق تسلح عالمي، وحروب غزو متجددة، وانكماش التجارة، وانهيار في التعاون الدولي الضروري لمواجهة التهديدات العالمية المشتركة.

الحرب المتجذرة

على مدى عدة قرون قبل الحرب العالمية الأولى، كانت الحرب وسيلة قانونية لحل النزاعات بين الدول. لم يعد اندلاع حرب انهياراً للنظام الدولي، بل كان هو النظام نفسه. وفي ظل غياب محكمة عالمية للفصل في النزاعات الدولية، كانت الدول ذات السيادة تملك الحق في فرض حقوقها كما تشاء، أي من خلال اللجوء إلى الحرب. وكانت الدول تقدم مبرراتها القانونية لشن الحروب على دول أخرى في ما يعرف بـ”بيانات الحرب”. وكان ينظر إلى أي تظلم قانوني على أنه سبب مشروع لاستخدام القوة العسكرية، سواء تعلق الأمر بأضرار مادية، كإلحاق الضرر بالسفن، أو ديون غير مسددة، أو انتهاكات للمعاهدات، أو بطبيعة الحال، الدفاع عن النفس. وكما كتب الفيلسوف والفقيه الهولندي في القرن السابع عشر، هوغو غروتيوس، الملقب غالباً بـ”أبو القانون الدولي”، في كتابه “حول قانون الغنائم”: “تعد الحرب عادلة إذا كانت تنفيذاً لحق مشروع”.

وبما أن الحرب كانت تعد وسيلة لفرض الحقوق، فقد اعترف القانون الدولي بحق الغزو، إذ كان يسمح للدول بالاستيلاء على الأراضي والممتلكات كوسيلة لتعويض المظالم التي أدت إلى اندلاع النزاع. وقد أوضح غروتيوس أن الدول، “عند الاستيلاء على الغنائم أو الممتلكات المصادرة”، تنال “من خلال الحرب ما هو حق لها”. صحيح أن القوى الكبرى كانت تطالب أحياناً بما لا يحق لها، لكن في ظل غياب سلطة عليا تحكم على شرعية الحروب، كان النظام الدولي يفترض عملياً أن كل غزو هو مشروع. فالقوة كانت تصنع الحق. فعندما شنت الولايات المتحدة حرباً على المكسيك عام 1846، كان أحد المبررات القانونية الأساسية هو الديون غير المسددة. وفي مقابل وقف الحملة العسكرية، أجبرت الولايات المتحدة المكسيك على توقيع معاهدة تنازلت بموجبها عن 525 ألف ميل مربع من أراضيها، وهي المنطقة التي أصبحت لاحقاً جنوب غربي الولايات المتحدة، مقابل 15 مليون دولار وشطب الديون.

ولم يكن هذا المثال استثنائياً، إذ كثيراً ما لجأت الدول إلى ما عرف لاحقاً بـ”دبلوماسية الزوارق الحربية”، أي استخدام التهديد العسكري لفرض مطالب سياسية أو اقتصادية، لإرغام الدول الأضعف على توقيع معاهدات غير متكافئة. فإذا كان من المشروع أن تشن دولة حرباً دفاعاً عن حقوقها، فقد كان من المشروع أيضاً أن تهدد بشن حرب للغرض نفسه. وقد جسد الضابط البحري الأميركي ماثيو بيري هذا المنطق في مطلع عام 1854، حين أبحر بأسطول من السفن الحربية الأميركية إلى خليج إيدو (طوكيو حالياً) مدعياً أن للولايات المتحدة حقاً قانونياً في التجارة مع اليابان، موضحاً أنه في حال رفضت اليابان فتح موانئها، فسيفرض ذلك بالقوة العسكرية. وبالفعل أثمر هذا الضغط: ففي 31 مارس (آذار) 1854، وقعت الدولتان معاهدة كاناغاوا، التي فتحت ميناءين يابانيين أمام السفن الأميركية.

ونظراً إلى أن الحرب كانت تعد وسيلة تسعى من خلالها الدول إلى نيل حقوقها القانونية، فلم يكن يعد خوضها جريمة، بل شكل من أشكال إنفاذ القانون. فعندما خسر نابليون حرب التحالف السادس عام 1814، لم تعامله القوى الأوروبية المنتصرة كمجرم حرب، بل نفي إلى جزيرة إلبا، حيث سمح له بالاحتفاظ بلقب الإمبراطور ومنح حق السيادة على الجزيرة. وحتى بعد عودته إلى أوروبا وهزيمته مجدداً في معركة واترلو، لم ينظر إلى نفيه إلى جزيرة سانت هيلينا في جنوب المحيط الأطلسي كعقوبة جنائية، بل كإجراء وقائي، نوع من الحجر السياسي، يهدف إلى منعه من إشعال حرب جديدة في أوروبا.

ولم تقتصر امتيازات الدول على حقها في غزو أراضي دول أخرى، وممارسة دبلوماسية الزوارق الحربية، والتمتع بالحصانة من الملاحقة الجنائية بسبب شن الحروب، بل كانت أيضاً ملزمة بواجب حياد صارم تجاه الأطراف المتحاربة. فلم يكن يسمح للدول المحايدة بفرض عقوبات على المتحاربين، إذ كان يعد ذلك تدخلاً في مساعي كل طرف لانتزاع حقوقه القانونية. وإذا انتهكت دولة ما هذا الحياد، عد ذلك سبباً مشروعاً لإعلان الحرب عليها. لقد كان الغزو مشروعاً، أما فرض العقوبات الاقتصادية على المتحاربين فكان محظوراً.

في ظل ذلك النظام القانوني، الذي استمر حتى أوائل القرن الـ20، كانت الدول القوية تلجأ بحرية إلى الحرب لفرض مطالبها، فيما لم يكن أمام الدول الضعيفة سوى الخضوع أو مواجهة خطر الفناء. وكانت النتيجة حالة شبه دائمة من الصراعات. ومع غياب أي حظر على الغزو، كانت الحدود الوطنية تتبدل باستمرار بفعل العنف، وكانت الإمبراطوريات تتوسع بالقوة، مما رسخ انعدام المساواة على المستوى العالمي. أما طرق التجارة، فكانت تفتح بالقوة وتفرض السيطرة عليها بالمدافع، في حين كانت المستعمرات تكتسب وتفقد كما لو كانت تعويضات في دعاوى قضائية. وفي ظل هذا الواقع، ظل الاقتصاد العالمي مكبلاً بسبب التهديد الدائم بالحرب.

من الحرب إلى السلام

أدخلت الحرب العالمية الأولى تقنيات جديدة مدمرة إلى ساحة المعركة، وفاقت أهوالها ما شهدته الحروب السابقة. شاركت أكثر من 20 دولة في القتال، وقدر عدد القتلى بنحو 20 مليون شخص، نصفهم تقريباً من المدنيين. وبمجرد أن هدأت وتيرة القتل، بدأ البحث بشكل يائس عن وسيلة تحول دون تكرار كارثة مماثلة. مثلت عصبة الأمم، التي تأسست عام 1920 للحفاظ على السلام من خلال الأمن الجماعي، أحد الحلول المطروحة. لكن مجلس الشيوخ الأميركي، الذي كان يتحسب من الانجرار مجدداً إلى الحروب الأوروبية، رفض انضمام الولايات المتحدة إليها، الأمر الذي قوض قدرة المنظمة الدولية على تنفيذ قراراتها.

في الفترة نفسها تقريباً، برزت فكرة أكثر جرأة: حظر الحرب نهائياً. في أواخر عام 1927، اقترح وزير الخارجية الأميركي فرانك كيلوغ على رئيس الوزراء الفرنسي أريستيد بريان إبرام معاهدة عالمية تضفي الطابع الرسمي على هذا المفهوم. وفي أقل من عام، حصدت معاهدة كيلوغ، بريان لعام 1928، التي عرفت رسمياً باسم “المعاهدة العامة لنبذ الحرب كأداة للسياسة الوطنية”، توقيع 58 دولة، وهي الغالبية العظمى من الدول في ذلك الوقت. وقد رسخت هذه المعاهدة مبدأ أن الحرب العدوانية أصبحت غير قانونية، إذ اتفقت الدول الموقعة على “إدانة اللجوء إلى الحرب لحل النزاعات الدولية، والتخلي عنها كأداة للسياسة الوطنية في علاقاتها المتبادلة”، وتعهدت تسوية أي خلافات “بالوسائل السلمية”.

وبسبب فشل المعاهدة في منع اندلاع الحرب العالمية الثانية، أصبحت محط سخرية واسعة ووصفت بأنها ساذجة وعديمة الجدوى. لكن الحقيقة أنها أطلقت مساراً قاد إلى نشوء النظام القانوني الدولي الحديث. لم يدرك واضعو المعاهدة، على رغم من طموحهم، حجم التحول الذي أطلقوه. فبمجرد أن أصبحت الحرب محظورة، بات من الضروري إعادة تصور كل جانب تقريباً من جوانب القانون الدولي. فعندما غزت اليابان منشوريا عام 1931، استغرق الأمر من وزير الخارجية الأميركي هنري ستيمسون عاماً كاملاً لصياغة رد يتماشى مع مبادئ المعاهدة. قرر ستيمسون أن الولايات المتحدة سترفض الاعتراف بحق اليابان في الأراضي التي استولت عليها بشكل غير قانوني، وسرعان ما حذت دول عصبة الأمم حذوها. هذا المبدأ الجديد لعدم الاعتراف، الذي أصبح يعرف لاحقاً بـ”عقيدة ستيمسون”، شكل نقطة تحول تاريخية. فالغزو، الذي كان يوماً ما قانونياً، لم يعد يعترف به. وحتى لو أجبرت اليابان الصين على توقيع معاهدة تتنازل بموجبها عن الأراضي المغتصبة، لم يكن ليعترف بتلك الاتفاقية كاتفاق قانوني. ولم تعد دبلوماسية الزوارق الحربية تنتج التزامات قانونية معترفاً بها.

بعد الحرب العالمية الأولى، ظهرت فكرة جريئة: حظر الحرب تماماً

وعلى رغم من أن ألمانيا واليابان، وهما من الدول الموقعة على ميثاق كيلوغ-بريان، انتهكتا المعاهدة بشنهما الحرب العالمية الثانية، إلا أنهما دفعتا ثمناً باهظاً: فقد خسرتا كل الأراضي التي احتلتاها بالقوة، وخضع قادتهما للمحاكمة أمام محاكم جرائم الحرب. وكانت أولى التهم في لائحة الاتهام خلال محاكمات نورمبرغ تنص على أن ‘الحرب العدوانية التي خطط لها المتآمرون النازيون مسبقاً… جرت في انتهاك لمعاهدة كيلوغ-بريان لعام 1928.

كما أعادت مبادئ المعاهدة تعريف مجالات أخرى من القانون الدولي. فقد دافع المدعي العام الأميركي روبرت جاكسون عن قانون الإعارة والتأجير لعام 1941، الذي مكن الولايات المتحدة من تزويد الدول المحاربة لألمانيا النازية بالأسلحة من دون إعلان حرب رسمي، مستنداً إلى أن معاهدة كيلوغ-بريان غيرت القوانين التي تنظم مبدأ الحياد. وبما أن الدول الموقعة كانت قد “نبذت الحرب كأداة للسياسة”، أوضح جاكسون أن “الدولة التي تلجأ إلى الحرب في انتهاك لالتزاماتها لا يحق لها المطالبة بالمساواة في المعاملة من قبل الدول الأخرى”. أي إنه لم يعد الحياد يتطلب من الدول أن تظل محايدة تماماً في مواجهة العدوان.

بعبارة أخرى، بدأت المعايير بالتغير في عام 1928. لكن زعماء العالم أدركوا أن المثل وحدها لا تكفي، وأنهم بحاجة إلى قواعد قانونية ومؤسسات جديدة تمنح هذه المبادئ قوة إلزامية. بعد الحرب العالمية الثانية، أسست الدول المنتصرة منظمة الأمم المتحدة لتكريس التحول الذي أطلقته معاهدة كيلوغ-بريان. فقد نص ميثاق الأمم المتحدة على حظر “التهديد باستخدام القوة أو استخدامها ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأي دولة”. وبهذا، أصبحت المعاهدات المبرمة بالإكراه باطلة قانونياً، ولم يعد الحياد يعني الحياد التام، كما أصبح من الممكن محاسبة قادة الدول الذين يرتكبون أعمالاً عدوانية جنائياً.

شكل هذا التحول، الذي قادته الولايات المتحدة، واحداً من أعمق التحولات القانونية في التاريخ العالمي. فمنذ دخول ميثاق الأمم المتحدة حيز التنفيذ قبل نحو ثمانية عقود، أصبحت الحروب بين الدول، والغزوات الإقليمية التي كانت تعيد رسم الحدود الوطنية على مدى قرون، أحداثاً نادرة. لم تخض القوى الكبرى حرباً مباشرة ضد بعضها البعض منذ عام 1945، ولم تختف أي دولة عضو في الأمم المتحدة نهائياً نتيجةً للغزو. الصراعات لم تختف بطبيعة الحال، لكنها باتت أقل شيوعاً بكثير. ففي القرن الذي سبق الحرب العالمية الثانية، وقع أكثر من 150 غزواً إقليمياً ناجحاً؛ أما في العقود التالية، فلم يتجاوز العدد 10.

يرى بعض المحللين أن السلام الذي أعقب الحرب يعزى إلى الردع النووي، فيما يرجعه آخرون إلى انتشار الديمقراطية أو ازدهار التجارة العالمية. لكن هذه التفسيرات تغفل أهمية القرار بحظر الحرب. فعندما غزا الرئيس العراقي صدام حسين الكويت في أغسطس (آب) 1990، في انتهاك لميثاق الأمم المتحدة، طالب مجلس الأمن بانسحاب فوري للقوات العراقية. وعندما لم تلب المطالبة، أجاز المجلس للدول الأخرى “استخدام جميع الوسائل الضرورية” لـ”استعادة السلام والأمن الدوليين”. عندها قادت الولايات المتحدة تحالفاً عسكرياً دولياً لطرد القوات العراقية من الكويت. وقد أدركت الدول المراقبة أن خرق الحظر المفروض على استخدام القوة سيقابَل بعواقب. لم تشكل القوانين سلوك الدول لأنها اعتنقتها أخلاقياً بالضرورة، بل لأنها غيرت من توقعاتها إزاء ردود أفعال الدول الأخرى، لا سيما الولايات المتحدة.

علاوة على ذلك، غير حظر الغزو الإقليمي الطرق التي يمكن للدول من خلالها اكتساب الثروة. فقبل ترسيخ هذه القاعدة، كانت قدرة الدول على تكديس الثروات تعتمد في الغالب على مدى ما يمكنها انتزاعه من أراض وموارد وتنازلات من دول أخرى. وكانت الحرب والغزو مسارين معترفاً بهما لتحقيق الازدهار. وبإلغاء حق الغزو، أجبر النظام القانوني الذي نشأ بعد الحرب الدول على السعي لتحقيق النمو الاقتصادي بوسائل سلمية، وعلى رأسها التجارة. وارتبط توسع التجارة ارتباطاً وثيقاً بحظر الحرب، إذ لم يعد بمقدور الدول إثراء نفسها من خلال الغزو. وبدلاً من ذلك، بات عليها الاعتماد على التعاون الاقتصادي، والتنافس في الأسواق، والتدفق الحر للسلع ورؤوس الأموال.

في المقابل، اضطرت القوى العظمى، التي كانت تعتمد على “دبلوماسية الزوارق الحربية” لفرض إرادتها، إلى استبدالها بـ”دبلوماسية دفتر الشيكات”. فقد حلت العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية محل الحرب كأداة رئيسة لإنفاذ القانون الدولي. ومع تعاظم الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين الدول، طورت هذه الأخيرة أساليب متزايدة الدقة والتعقيد لـ”الإقصاء”، أي حرمان الدول من مزايا التعاون الدولي. وأصبحت العقوبات التجارية إحدى الأدوات الرئيسة التي تلجأ إليها الدول للرد على طيف واسع من الأفعال غير القانونية، مثل انتهاكات حقوق الإنسان، أو دعم الإرهاب، أو شن حروب عدوانية. ففي عام 1945، كانت التجارة الدولية (الواردات والصادرات) تمثل نحو 10 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي؛ أما بحلول عام 2023، فقد بلغت نسبتها 58 في المئة. وإلى جانب ذلك، ظهرت عشرات الآلاف من المنظمات الدولية، وأبرمت أكثر من 250 ألف معاهدة للمساعدة في تنظيم هذا المستوى غير المسبوق من الترابط. وأصبح خطر الاستبعاد من هذا التعاون الدولي مكلفاً للغاية.

وبفضل حصتها الكبيرة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ومكانة الدولار الأميركي كعملة احتياط عالمية، اكتسبت الولايات المتحدة قدرة استثنائية على فرض القواعد. وبالنسبة إلى معظم الدول، كان الحفاظ على علاقات جيدة مع واشنطن ضرورة مالية لا يمكن تجاهلها. مع ذلك، لم يكن دور الولايات المتحدة في الحفاظ على النظام القانوني لما بعد الحرب مثالياً: من حرب فيتنام، إلى غزو العراق عام 2003، إلى حملات مكافحة الإرهاب التي امتدت لعقود في الشرق الأوسط، اعتمدت هذه العمليات على تبريرات فضفاضة للغاية لمبدأ الدفاع عن النفس. لكنها، في الوقت نفسه، لم تنتهك الحظر الجوهري على الغزو الإقليمي، ولعبت دوراً محورياً في دعم النظام، متعهدة بالدفاع عن الدول الأوروبية المنضوية تحت مظلة حلف شمال الأطلسي، والدول الأميركية المشمولة بمعاهدة “ريو” [التي تربط بين دول الأميركيتين في اتفاق دفاع مشترك]، إضافة إلى أستراليا، واليابان، ونيوزيلندا، والفيليبين، وكوريا الجنوبية، وتايلاند، إذا ما تعرض أي منها لهجوم غير قانوني. وقد أوضح قرار واشنطن بقيادة التدخل العسكري ضد غزو العراق للكويت أن إي دولة تحاول غزو دولة أخرى قد تواجه مقاومة تقودها الولايات المتحدة، حتى وإن لم تكن واشنطن مرتبطة بالتزام تعاهدي بالرد. هذا النظام، العملي وإن لم يكن مثالياً، ساعد في تجنب نشوب صراعات كبرى، وضمان ألا ينحدر العالم، على رغم توتراته، نحو عنف منفلت لا رادع له. وبات بإمكان الدول بناء اقتصادات مزدهرة من دون الخوف من أن تغزوها قوة عسكرية أكبر، أو ترغمها على توقيع معاهدات غير متكافئة تتخلى بموجبها عن مكاسبها.

أخطار قانونية

قد يكون كل ذلك على وشك أن يتغير. يمكن انتقاد الإدارات الأميركية السابقة على نفاقها، لكن استعداد إدارة ترمب للتخلي كلياً عن مبدأ حظر الحرب يعد أكثر خطورة بكثير. فمجرد طرح فكرة أن الولايات المتحدة قد تستولي بالقوة على كندا أو غرينلاند أو قناة بنما، أو تطالب بملكية غزة، لا يعكس براغماتية واقعية أو شكلاً جديداً من السياسات التبادلية القائمة على عقد الصفقات، بل هو ارتداد إلى حقبة سابقة كانت فيها القوة تشرعن المطالب. إن خطابات ترمب وأفعاله تعيد إحياء الفكرة التي سبقت معاهدة كيلوغ-بريان، والتي مفادها أن التهديد بالحرب أو السعي لغزو أراض هو وسيلة مشروعة لحل النزاعات وإرغام الدول الأخرى على تقديم التنازلات.

وإلى جانب التهديد بشن غزوات خاصة به، يبدو أن ترمب مستعد أيضاً للتخلي عن الدفاع عن حق الدول الأخرى في عدم التعرض للغزو. ففي أبريل (نيسان)، وبعد أن هدد بسحب المساعدة العسكرية الأميركية من أوكرانيا، حذر ترمب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من أنه إذا لم يقبل بخطة سلام بوساطة أميركية، قد تتضمن، بحسب صحيفة “فايننشال تايمز”، التنازل عن 20 في المئة من أراضي أوكرانيا لصالح روسيا، فإنه قد يواجه خطر “خسارة بلاده بأكملها”. وقد أعاد ترمب بالفعل إحياء دبلوماسية الزوارق الحربية، مستخدماً التهديد بالقوة لإجبار دول أخرى على توقيع معاهدات بشروطه؛ وكان للتهديدات العسكرية دور في انتزاع تنازلات من كندا والمكسيك.

وعلاوة على ذلك، تقوض سياسة الرسوم الجمركية التي اتبعها ترمب مبدأ حظر الغزو، لأنها تضعف فاعلية العقوبات الاقتصادية كوسيلة لإنفاذ القانون الدولي. فالعقوبات لا تؤتي ثمارها إلا إذا استخدمت بشكل محدود وفي مواجهة انتهاكات واضحة للقانون الدولي. أما فرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المئة على دول أخرى بشكل اعتباطي، كما فعل ترمب مع كندا والمكسيك، فيفرغ العقوبات الاقتصادية من قوتها الرادعة ويقوض قدرتها على التصدي للسلوكيات غير القانونية الحقيقية.

في الواقع، شن ترمب هجوماً مباشراً على قوة العقوبات كآلية إنفاذ عندما وقع أمراً تنفيذياً يهدد بفرض عقوبات على القضاة والمحامين المرتبطين بالمحكمة الجنائية الدولية. هذه الخطوة حولت أداةً لإنفاذ القانون الدولي إلى سلاح لتقويضه. وعلى نطاق أوسع، فإن السياسات الاقتصادية الانعزالية التي ينتهجها ترمب، من خلال تقويضها لترابط الدول واعتمادها المتبادل، تضعف قدرة تلك الدول على “إقصاء” المخالفين للقانون، مما يتركها أمام خيار ضيق: إما اللجوء إلى القوة العسكرية، أو التغاضي عن الانتهاكات من دون محاسبة.

التعليقات معطلة.