نهاية الطائفية ليست مؤامرة… بل نتيجة

21

 

ليس من باب التمنّي أو التنظير القول إن الأنظمة الطائفية محكومٌ عليها بالسقوط، بل من باب التحليل الواقعي المستند إلى التاريخ، وعلم الاجتماع السياسي، وتجارب الشعوب التي خاضت حروبها الأهلية ونزاعاتها الداخلية، ثم اكتشفت أن لا مستقبل لها إلا تحت سقف الدولة الوطنية الجامعة.
أُفُول الطائفية: من الداخل لا من الخارج
غالبًا ما نُرجع سقوط الأنظمة إلى تدخل خارجي، كما يُقال إن الولايات المتحدة، أو شخصية مثل ترامب، كانت السبب وراء تصدع أو انهيار هذا النظام أو ذاك. لكن الحقيقة الأعمق تكمن في الداخل: الطائفية لا تموت بالقصف، بل تذوب بالوعي. لا تنهار لأن واشنطن قررت ذلك، بل لأن مجتمعاتها تنضج، وتضيق ذرعًا بها، وتتمرد على بنيتها الفاسدة.
الأنظمة الطائفية تقوم على التمييز والإقصاء، وعلى تقسيم السلطة لا وفق الكفاءة بل وفق الهوية، وعلى ترويج الخوف لا الثقة. ولهذا فهي تفقد تدريجيًا مصادر شرعيتها في وجدان شعوبها، وتتحول من مظلة يُفترض أن تحمي المكوّن، إلى عبء يُكبّله، ويمنعه من التفاعل الحضاري مع محيطه.
الطائفية في مواجهة الزمن
كلما تقدم الزمن، تقدمت معه أدوات الوعي الجماهيري، وانتقلت مطالب الشعوب من الشعارات إلى الحقوق، ومن الهويات الجزئية إلى الدولة التي تُعبّر عن الجميع. وهذا ما يجعل النظام الطائفي، مهما حاول التكيّف، في مواجهة خاسرة مع المتغيرات. فالحداثة السياسية تفرض لغة حقوق الإنسان، والمساواة، والمواطنة، لا لغة “المكوّن الأكبر” أو “التمثيل العادل للطائفة”.
حتى من داخل الطائفة نفسها، بدأ الرفض يتصاعد. فالشباب الشيعي أو السني أو المسيحي في العراق، لم يعد يرى في الزعامة الطائفية ممثلًا له، بقدر ما يراها بوابة فساد، وسلطة دينية موروثة، وفقدانًا للكرامة السياسية.
الدولة الوطنية ليست ترفًا… بل ضرورة بقاء
في المقابل، يبرز المشروع الوطني العادل باعتباره البديل الطبيعي والضروري. ليس مشروعًا أيديولوجيًا أو نخبويًا، بل هو مطلب شعبي يتجذر يومًا بعد آخر، لأنه ببساطة يلبي ما فشلت الطائفية في تحقيقه: الكرامة، العدالة، والفرص المتساوية.
الدولة الوطنية لا تلغي الهويات، لكنها ترفعها إلى مستوى المشاركة بدل التصارع. تجعل من الانتماء للعراق هويةً جامعةً، بدل تمزيق المواطن بين ولاءات فرعية.
العراق على مفترق طرق… هل نتجاوز الطائفية أخيرًا؟
العراق اليوم يقف في لحظة فارقة من تاريخه الحديث. لقد جُرّب النظام الطائفي بكل نسخه، وأُنهك المواطن باسم المكوّن، واستُبيحت الدولة باسم الشراكة، حتى تحولت الشراكة نفسها إلى تقاسم فساد لا تقاسم مسؤولية.
الجيل الجديد من العراقيين، لا سيما بعد انتفاضات تشرين وما تلاها، أظهر وعيًا يتجاوز الطائفة، ويرى في الوطن المريض مسؤولية مشتركة لا معركة فئوية. هذا الوعي الذي يتشكل، ولو ببطء، هو أعظم تهديد للنظام الطائفي، لأنه يقلب المعادلة: من طائفة تريد حماية الدولة، إلى دولة تحمي الجميع من الطائفية.
لم يعد سؤال العراقي اليوم: من يحكم؟ بل: كيف نحكم؟ وفق أي نظام؟ وتحت أي مشروع وطني؟ وهذه الأسئلة، حين تُطرح بجرأة، تكون بداية النهاية لأية منظومة طائفية… وبداية النهوض نحو دولة الإنسان، لا دولة المذهب .

التعليقات معطلة.