من مهازل القدر: حين تهدد الكويت العراق عسكريًا!

26

 

 

قراءة في العبث الإقليمي وانهيار القرار السيادي في بغداد
من مهازل القدر فعلًا أن يخرج تهديد باستخدام القوة العسكرية، ليس من دولة نووية ولا من قوة إقليمية كبرى، بل من الكويت… ذلك الجار الصغير الذي لطالما احتمى بمظلات الخارج، فجأة يتحدث بلغة السلاح ضد العراق!
لكن قبل أن نذهب بعيدًا في السخرية من هذا التهديد، لا بد أن نقرأ المشهد بمسؤولية لا تخفي الغضب، بل توجّهه نحو مكمن الداء: الدولة العراقية المربكة، والقرار الغائب، والهيبة المهدورة.
أولًا: من خور عبد الله إلى لغة الحرب… مفارقة ثقيلة
في قلب هذه الأزمة تقف قضية خور عبد الله، التي تفجرت مجددًا بعد قرار المحكمة الاتحادية بعدم دستورية المصادقة على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع الكويت. لكن المفارقة أن هذا القرار لم يدم طويلًا، إذ سارع رئيس مجلس القضاء الأعلى، فائق زيدان، إلى “تصحيح” الموقف القضائي والسياسي بإقرار شرعية السيادة الكويتية على الخور، ما عدّه البعض تراجعًا صريحًا أمام الضغوط الخارجية.
ورغم هذا التراجع الرسمي، خرج تصريح كويتي صادم بعد أيام، يلوّح باستخدام القوة العسكرية ضد العراق. فما الذي تغيّر؟ لا شيء سوى استمرار إدراك الجيران أن العراق الرسمي بات هشًا، وأن الهيبة العراقية قابلة للبيع أو الإجهاض في أروقة الصفقات والتفاهمات الغامضة.
ثانيًا: لماذا يبدو التهديد مهزلة؟
التهديد يصبح مهزلة حين يصدر من دولة لا تمتلك إمكانات عسكرية كبيرة، بل تعتمد كليًا على الحماية الغربية. وما كان لهذا التهديد أن يُسمع لولا أن العراق اليوم لم يعد يُخيف أحدًا، ولا يُحسب له حساب، بعد أن جُرّد من قراره السيادي، وأُنهك بالولاءات المتصارعة، وسُلّمت مفاصله الحيوية لجماعات تتقاطع مصالحها مع الخارج أكثر من الداخل.
ثالثًا: الكويت… فاعل مستقل أم أداة في لعبة دولية؟
من السذاجة أن نأخذ تصريح الكويت على أنه انفعال سيادي. بل يجب قراءته ضمن منظومة أوسع من الضغوط الدولية، خصوصًا مع تصاعد الصراع حول المنافذ البحرية، والطموحات الإقليمية لإبقاء العراق بلا شاطئ سيادي حقيقي. فالكويت، في هذا السياق، ليست أكثر من رقم صغير يتحرك ضمن إرادات أكبر — سواء من واشنطن أو لندن — في محاولة لترسيخ واقع بحري وجيوسياسي جديد في الخليج، يقوم على تقييد حركة العراق واستقلاله الجغرافي والاقتصادي.
رابعًا: صمت بغداد… جرس إنذار
الرد العراقي؟ لا رد. لا جلسة طارئة لمجلس الوزراء، لا بيان رسمي صارم من الخارجية، لا موقف موحد من البرلمان، بل مجرد ضجيج موسمي على وسائل التواصل وبعض التصريحات المرتبكة. هذا الصمت يُقرأ في الخارج على أنه ضعف، بل إنه يُشجع الآخرين على التمادي، ويكشف مدى تفكك القرار العراقي وتشرذمه بين كتلة لا تجرؤ، وميليشيا لا تُحاسب، وسفارات تُملي ما تشاء.
خامسًا: الإذلال السياسي أخطر من الحرب
الخطر هنا لا يكمن في اندلاع حرب — فالحرب مستبعدة — بل في ترسيخ صورة الإذلال، حين يصبح العراق بلدًا يمكن تهديده دون عواقب، ودولة يُساوَم على كرامتها في الممرات الخلفية للدبلوماسية.
هذه الإهانة المعنوية تسكن في الذاكرة الجمعية، وتتحول مع الزمن إلى عقيدة تفاوضية عند الجيران، ومصدر إحباط وغضب لدى الشعب، الذي يرى أن السيادة أصبحت سلعة، وأن الدولة باتت جسدًا بلا روح.
سادسًا: هل هو قرع طبول حرب أم قرع على رؤوس العراقيين؟
الواقع أن لا الكويت تملك الإرادة ولا القدرة على شن حرب ضد العراق، ولا العراق يمتلك مؤسسات تؤهله للرد. لكن الرسالة وصلت: القرار في بغداد ليس بيد بغداد، والحدود لم تعد خطوطًا حمراء، بل مساحة للمساومة .
والأدهى أن الجميع يعلم أن التهديد لن يُقابل إلا بتصريحات باهتة أو تفسيرات قانونية باردة، أو خطوات تراجعية تُغلّف بغطاء “التهدئة”، لكنها في الجوهر تنازلات متراكمة.
سابعًا: المعركة ليست مع الكويت… بل مع الداخل المشلول
من مهازل القدر أن تُهدد دولة كالعراق من جار صغير كالكويت، لا لأن الكويت أصبحت قوة عظمى، بل لأن العراق فقد هيبته، واستُنزف حتى العظم، وتحكمت به كيانات فوق الدولة، ورجال دولة لا يجرؤون على الفعل .
لكن رغم كل شيء، لا يزال في العراق شعب حي، وكرامة لا تُهزم، ووعي يتقد يومًا بعد يوم.
والمعركة الحقيقة لا تُخاض على حدود خور عبد الله، بل في قلب بغداد، حيث ينبغي أن تُستعاد الدولة من خاطفيها، ويُبنى قرار وطني لا يخضع للابتزاز، ولا يُركّع أمام التهديد .

التعليقات معطلة.