في توقيت دولي حرج، أوروبا تتحرك سريعًا… ولكن لماذا الآن؟
في الوقت الذي ترتفع فيه حرارة الأرض في غزة، وتقترب أجواء الإقليم من انفجار عسكري كبير قد يغيّر وجه الشرق الأوسط لعقود قادمة، تتحرك أوروبا بشكل غير مسبوق نحو الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين . فرنسا كانت السباقة عبر الرئيس إيمانويل ماكرون، تلتها إسبانيا والنرويج، ثم أعلنت بريطانيا، على لسان رئيس وزرائها الجديد كير ستارمر، أنها ستعترف بدولة فلسطين رسميًا في سبتمبر المقبل إذا لم تلتزم إسرائيل بشروط وقف الحرب .
لكن خلف هذا “التحرك الإنساني”، تقف اعتبارات أعمق وأكثر تعقيدًا، تتجاوز الأخلاق إلى حسابات النفوذ وإعادة التموضع السياسي في لحظة ما قبل الحرب.
ماكرون وستارمر: إعادة رسم الدور الأوروبي
لم يكن ماكرون وستارمر يتحركان من فراغ .
الأول يريد إعادة الاعتبار للدور الفرنسي كوسيط في ملفات المنطقة، والثاني يدرك أن بريطانيا فقدت كثيرًا من تأثيرها منذ “بريكست”، وأن إعادة بناء هذا الدور يمر من بوابة الشرق الأوسط .
الاعتراف بفلسطين، إذًا، ليس نابعًا فقط من مشاهد المجازر اليومية في غزة، بل من قناعة استراتيجية أن أوروبا بحاجة إلى حجز مقعد في الطاولة المقبلة قبل أن تبدأ مفاوضات ما بعد الحرب.
لماذا الآن؟ ولماذا بهذه السرعة؟
التوقيت ليس بريئًا . نحن أمام مشهد يتقاطع فيه:
انهيار مشروع “الوسيط الأمريكي” بعد انحياز واشنطن الصارخ لإسرائيل؛
تزايد احتمالات الحرب الإقليمية مع حزب الله وإيران.
فشل اتفاقيات التطبيع (إبراهام) في منع الانفجار .
تراجع هيبة الردع الإسرائيلي؛
صعود المحور الشرقي (روسيا، الصين، إيران)؛
واحتقان داخلي في المجتمعات الأوروبية يضغط على حكوماتها .
ضمن هذا المشهد، يصبح الاعتراف الأوروبي خطوة استباقية لضمان التأثير في معادلة ما بعد الحرب، لا مجرد تعاطف مع الضحايا .
الاعتراف كورقة تفاوض لا كعربون أخلاقي
يخطئ من يعتقد أن هذه الاعترافات ولدت فقط من رحم الضمير الأوروبي .بل هي، في جوهرها، محاولة أوروبية ذكية لإعادة التموضع في مشهد عالمي بات متعدد الأقطاب. أوروبا لم تعد تثق بقيادة أمريكية مطلقة، ولا تريد أن تُستبعد من التسويات الكبرى المقبلة.
وبينما تتصاعد نذر الحرب، تتصرف باريس ولندن على قاعدة:
“من يعترف اليوم، سيكون جزءًا من الحل غدًا.”
رسالة إلى الجميع: نهاية التفرد الأمريكي؟
الأوروبيون يقولون ضمنيًا للعالم:
“إذا كانت أمريكا طرفًا لا وسيطًا، وإذا كانت الصين وروسيا تتقدمان كقوى موازية، فعلينا أن نعلن استقلالنا السياسي، ونثبت حضورنا.”
من هنا، يصبح الاعتراف بدولة فلسطين أداة ضغط دبلوماسي، ورسالة موجهة للعرب والإسرائيليين، وللأمريكيين أيضًا: أوروبا تريد أن تكون شريكًا في القرار، لا متفرجًا .
من يعترف اليوم… يفاوض غدًا
الاعتراف الأوروبي بدولة فلسطين في هذا التوقيت لا يمكن قراءته كحركة ضمير خالصة، بل كإعادة تموضع ذكي ضمن مشهد دولي متحوّل، واستعداد مبكر للمرحلة التالية من الصراع، سواء انتهت بتسوية أو انفجار شامل.
فالتاريخ، كما تثبت الوقائع، لا يُكتب دائمًا بإرادة أصحابه، بل بخطى الأقوياء ومصالحهم. وما تريده أوروبا اليوم، هو أن تضمن موقعًا مؤثرًا في لحظة التأسيس الجديدة لنظام ما بعد الحرب المقبلة ولتي يجري الاستعداد لها .
الاعتراف هنا ليس نهاية الطريق، بل هو مجرد مفتاح للغرف الخلفية التي تُرسم فيها خرائط الدول والشعوب. أما الفلسطينيون، فهم أصحاب القضية، لكن المعادلة لا تُحسم بمدى عدالتهم فقط، بل بقدرة الآخرين على تحويل تلك العدالة إلى مكسب سياسي دائم. وهذا ما يجعل المعركة مستمرة، ليس فقط على الأرض، بل أيضًا على طاولات القرار التي لا ترحم الغائبين .