في خطوة مفاجئة أثارت تساؤلات كثيرة في الأوساط الدبلوماسية والإعلامية، أعلنت الحكومة الباكستانية أن “أي اعتداء على إيران يُعتبر اعتداءً على باكستان”. هذا التصريح، الذي جاء في لحظة إقليمية حرجة، فُهم على نطاق واسع كرسالة سياسية أكثر منه موقفًا عسكريًا مباشراً. لكنه يفتح الباب لفهم أعمق للعلاقة غير المعلنة بين إسلام آباد وطهران، والتي لا تحكمها التحالفات العقائدية، بل شبكة مصالح أمنية واستراتيجية معقّدة تعود لسنوات طويلة.
علاقات ما تحت الطاولة
لطالما لعبت باكستان دورًا حاسمًا، وإن ظل بعيدًا عن الأضواء، في مساعدة إيران خلال بدايات مشروعها النووي، سواء عبر خبرات علمية، أو تسهيلات فنية، أو حتى توفير بعض العلماء المرتبطين بالبرنامج الباكستاني ذاته. كما أن طهران، في مراحل لاحقة، لم تبخل بدعم بعض الملفات الباكستانية في الخليج العربي، خاصة في قضايا العمالة، والوجود الاقتصادي، وتوازنات القوى الإقليمية.
وعلى الرغم من التوترات الحدودية المتكررة بين الجانبين، لا سيما في إقليم بلوشستان، فإن التنسيق الاستخباري لم ينقطع، والتفاهمات الأمنية ظلت قائمة، لكنها غير معلنة. اليوم، ومع اقتراب المنطقة من حافة الانفجار، ترى باكستان أن من مصلحتها تفعيل هذه العلاقة وإظهارها، ولو من باب التصعيد الرمزي.
ردع إقليمي واستباق هندي
تدرك إسلام آباد أن أي حرب كبرى تُخاض ضد إيران – سواء إسرائيلية أو أمريكية – لن تترك باكستان بمنأى عن تبعاتها. ولذلك فهي تسعى إلى ترسيخ معادلة استباقية: “نحن جزء من توازن الردع، وإن لم نكن طرفًا في المعركة”.
لكن الأهم أن هذا الموقف موجّه أيضًا إلى الهند، في ظل سباق التسلح المحتدم، والنزاعات المزمنة، والتنافس على النفوذ في بحر العرب وآسيا الوسطى. فحين ترفع باكستان صوتها دفاعًا عن إيران، فهي تُرسل رسائل إلى نيودلهي مفادها: أن خطوط النار القادمة في المنطقة لن تُرسم دون أن يكون لها موطئ قدم.
باكستان لا تقاتل… لكنها تحضر الخريطة
التصريح الباكستاني لا يعني أن إسلام آباد ستقاتل دفاعًا عن طهران، ولا أنها دخلت في محور معادٍ للغرب أو للخليج. لكنها ببساطة لا تريد أن تكون دولة “متفرّجة” على الحرب، بل حاضرة في الحسابات، في التفاهمات، وفي ترتيبات ما بعد الصراع.
المعادلة الباكستانية واضحة: إذا ما تمّت إعادة رسم خرائط النفوذ في الشرق الأوسط، فإن باكستان تريد أن تحجز لنفسها موقعًا على الطاولة، لا أن تنتظر الفتات من اللاعبين الكبار.
قراءة في توقيت التصريح
ما يُعطي هذا التصريح بعدًا خاصًا هو توقيته. فالساحة الإقليمية تعيش حالة غليان، مع اقتراب جبهة الجنوب اللبناني من الانفجار، والتلويح الإسرائيلي المتكرر بتوجيه ضربة إلى المفاعلات النووية الإيرانية. وفي ظل الانكفاء الأمريكي من بعض الملفات، والتقدّم الروسي–الصيني في ملفات آسيا والشرق الأوسط، تجد باكستان نفسها أمام فرصة نادرة للتموضع.
باكستان، التي تعاني من أزمات اقتصادية، وهشاشة سياسية داخلية، تُدرك أن صمتها سيُكلّفها مستقبلًا، وأن الحضور – حتى لو كان رمزيًا – يضمن لها أوراق تفاوض لاحقة. إنها تُحسن اختيار لحظة التصعيد، ليس للمشاركة في الحرب، بل لضمان حصّتها من نتائجها.
إسلام آباد تمارس اليوم نوعًا من “الردع الذكي”، القائم على التلويح بورقة المصالح العميقة، والتاريخ الأمني المشترك، وقراءة دقيقة لتوازنات القوى. باكستان لا تدافع عن إيران بقدر ما تُدافع عن مصالحها في زمن تزداد فيه النار قربًا من الحدود، وتكاد ترسم مستقبل المنطقة برمّته. إنه صوت المصالح حين يُرفَع قبل اشتعال النار .