مقدمة
حين اندلعت الحرب على العراق عام 2003، رفعت الولايات المتحدة شعار “إسقاط الطاغية وبناء الديمقراطية”. لكن بعد عقدين، يتضح أن ما تم تصديره للعراق لم يكن مؤسسات شفافة ولا نظامًا عادلًا، بل بيئة كاملة خصبة لإنتاج الوحوش السياسية والأخلاقية . وفي حين كان لدى أمريكا “إبستين” واحد يفضح منظومة بأكملها، صار في العراق العشرات، يمارسون فسادهم العلني تحت حماية القانون أو الميليشيا أو الصفقة السياسية .
من واشنطن إلى بغداد… النموذج نفسه بوجوه مختلفة
في الولايات المتحدة، تحرك جيفري إبستين بين النخب الاقتصادية والسياسية، متسترًا خلف واجهة رجل أعمال ناجح، بينما كان يدير شبكة استغلال جنسي للقاصرات . في العراق، ظهرت عشرات النسخ أكثر فجاجة ترتدي عباءة الدين أو الوطنية، بينما تدير فسادًا أخلاقيًا، تغطيه الأحزاب، وتحميه الطوائف، ويموّله المال العام .
الفرق الوحيد أن النسخة العراقية لم تُكلّف نفسها حتى التجمّل.
البيئة الصالحة للفساد… كانت جاهزة للتلقي
الغزو الأميركي لم يسقط فقط نظامًا سياسيًا، بل أسقط معه حدودًا أخلاقية راسخة .لقد أعاد تشكيل البنية السياسية العراقية بطريقة سمحت بتفريخ الفساد بدلًا من تفكيكه .
تفكيك مؤسسات الدولة الحقيقية واستبدالها بمحاصصة حزبية .
تمكين من لا يؤمن بالدولة، بل يؤمن بالولاء والصفقة.
إسكات القضاء، وتدجين الإعلام، واحتواء المجتمع عبر الخوف أو التخدير .
والأخطر من ذلك، أن مفاتيح النفوذ سُلّمت لمن يشبهون إبستين في السلوك لا في الأسماء، من حيث الاستغلال، والابتزاز، وتوظيف الفضيحة كسلاح بيد السلطة .
من رجل الدولة إلى رجل الفضيحة
في العراق ما بعد 2003، لم يُولد “رجل دولة”، بل ظهر “رجل صفقة”. الشهادات لا تفتح الأبواب، بل التسجيلات. والسيرة الذاتية لا تعني شيئًا إن لم تكن مرفقة بملف فضيحة في الخزانة .
تحول الفساد الأخلاقي إلى وسيلة ضغط سياسية . تُجمع التسجيلات بالصوت والصورة، لا من أجل المحاسبة، بل لتأمين الولاء .وغالبًا ما تُستخدم ضد “شركاء الأمس” لحسم خلافات الغد .
هل هذا مجرد انحراف… أم تصميم متعمد؟
ما يحدث اليوم في العراق يثير سؤالًا لا يُمكن تجاهله: هل ما وصل إلينا من أمريكا كان فعلاً قيمًا ديمقراطية؟ أم أن النموذج المصدّر صُمم ليبدو ديمقراطيًا، بينما يُدار بأدوات أقرب إلى شبكات الجريمة المنظمة؟
قراءة متأنية لتصرفات الولايات المتحدة في العراق تُظهر اهتمامًا مفرطًا بتوزيع السلطات، وضبط الجماعات، وضمان النفوذ….. لكنها تتجاهل بناء ضمير سياسي، أو دعم منظومة أخلاقية تحمي الفرد والمجتمع من السقوط الحر .
حين تُصدّر الوحوش بدلًا من القيم
العراق اليوم ليس حالة فريدة، بل نموذج لمنطقة تُدار بمزيج من المال والنفوذ والسكوت الدولي . وإذا كان لإبستين واحد أن يهز أمريكا من الداخل، فكم نسخة نحتاج في العراق لهز هذا النظام المشوّه من الخارج؟ أم أن كثرة الفضيحة باتت تمنح المناعة بدلاً من الإدانة؟
وإذا كانت الديمقراطية صندوق اقتراع فقط، فكم من وحش صعد بأصوات الناخبين، ثم دهسهم تحت قدميه بلا مساءلة؟
لم تسقط أمريكا “الطاغية” فقط، بل أسقطت معها القيم، وحوّلت السياسة إلى سوق للابتزاز، والحكم إلى لعبة فضائح .الخطأ لم يكن فقط في الغزو….. بل في النموذج الذي جرى تصديره بعده . نموذج ديمقراطية إبستين….. حيث تُحمى الوحوش بالقانون، ويُقصى الشرفاء بالصمت .