في عام 2021، شاهد العالم سقوط كابل سريعًا بيد طالبان، بعد انسحاب القوات الأمريكية وتخلي الحكومة المحلية عن دورها الفاعل. هذا المشهد لم يكن مجرد حادثة محلية، بل تحذير واضح للدول والمجتمعات التي تراهن على حماية مصالحها عبر الاعتماد على دعم خارجي مؤقت .
اليوم، يتكرر المشهد في بغداد، لكن بشروط محلية وإقليمية مختلفة. انسحاب القوات الأمريكية من العراق لم يكن مجرد خطوة عسكرية، بل اعتراف صريح بفقدان السيطرة على النظام السياسي العراقي. حكومة بغداد، التي كانت يومًا ما تُوصف بـ”المحايدة”، باتت اليوم مرآة للنفوذ الإيراني، والفصائل المسلحة تتحرك بحرية شبه مطلقة، مستفيدة من الغطاء السياسي والإقليمي.
الشعب العراقي، الذي طالما حلم بديمقراطية كسيحة، يجد نفسه أمام واقع أكثر سوداوية. المؤسسات الحكومية، التي يفترض أن تكون أداة للحكم المدني، أصبحت مجرد واجهة لتسلط المليشيات والفصائل المسلحة، بينما القانون والقضاء عاجزان عن حماية المدنيين. أحداث الاغتيالات المستمرة للناشطين والصحفيين، مثل هشام الهاشمي، وثائرة تشرين رهام يعقوب، وغيرها، تثبت أن الخطر لم يعد مجرد تهديد محتمل بل واقع يومي يعيشه العراقيون .
الدرس الأكبر من كابل إلى بغداد هو أن الاعتماد على دعم خارجي لا يضمن الأمن ولا الاستقرار. قوة الدولة يجب أن تنبع من الداخل، من إرادة شعب واعٍ وقيادة قادرة على مواجهة التحديات، وليس من الاتفاقات الدولية أو الضمانات المؤقتة.
وبينما تستمر بغداد في إعادة إنتاج كابول، يظل السؤال الأكثر إلحاحًا: متى سيتعلم العراقيون من دروس التاريخ القريب؟ ومتى سيبدأ الشعب في استعادة سيطرته على مصيره قبل أن يتحول العراق إلى نسخة أخرى من الفشل المستورد؟
الشارع العراقي بين اليأس والانفجار
أما الشعب العراقي، الذي جُرّد من أحلامه مراراً، فلن يجد في الأفق سوى العتمة. لكن من رحم هذا اليأس قد يولد انفجار شعبي جديد، قد يكون أكثر عنفاً واتساعاً من تظاهرات تشرين. فالمعادلة تغيّرت: لا راعٍ أميركياً يفرض حدود اللعبة، ولا دولة تحمي المواطنين. الشارع هو وحده من سيكتب الفصل التالي، إما ثورة تعيد الاعتبار للوطن، أو فوضى تنسف ما تبقى من كيان الدولة .
عراق بلا غد: كابول جديدة
رحيل الراعي الأميركي لم يكن مجرّد انسحاب عسكري، بل إعلان صريح عن انهيار النظام الذي أقيم عام 2003. الديمقراطية الكسيحة انتهت، والدولة دخلت في مرحلة موت سريري بطيء. ومع غياب الراعي وتغوّل الميليشيات، يبدو العراق أقرب إلى كابول جديدة في قلب الشرق الأوسط: ساحة بلا دولة، يتناوب على تمزيقها الآخرون، فيما يُترك الشعب لمصيره المظلم، عالقاً بين سطوة الداخل وتواطؤ الخارج.
المشهد الذي رآه العالم في كابل، يعيد نفسه اليوم في بغداد، ولكن بخطورة مضاعفة. العراق يقف على مفترق طرق بين واقع مُرّ يفرضه النفوذ الخارجي والفصائل المسلحة، حلم شعب يتوق لاستعادة كرامته واستقلاله. الزمن ليس في صالح العراقيين، والتحرك الواعي والمسبق هو السبيل الوحيد لتفادي تكرار الأخطاء نفسها .