السلام الوهمي 

3

د.أحمد مصطفى أحمد

يزيد حنق الرئيس الأميركي دونالد ترامب على الإعلام كُلَّما كشفت الصحافة أكاذيبه وتلفيقه، لكنَّه يعتمد على الصلف والعنجهيَّة والعزَّة بالإثم وقوَّة المنصب الَّذي يشغله لقلب الحقائق واتهام ما لا يعجبه بأنَّه مجرَّد هجوم عَلَيْه. في فترة رئاسته الأولى السابقة خصصت منافذ إعلام أميركيَّة ركنًا يوميًّا ثابتًا لتدقيق وتمحيص تصريحات الرئيس وكشف ما فيها من كذب صريح مباشر أو ليّ للحقائق. ويبدو أنَّ تلك الظاهرة ستعود مجددًا بعد أشْهُر قليلة من فترة رئاسة ترامب الثَّانية. فقبل القمَّة الروسيَّة الأميركيَّة في ألاسكا بَيْنَ الرئيس ترامب والرئيس فلاديمير بوتين كانت كُلُّ التوقعات أن يتم التوصل إلى هدنة للحرب في أوكرانيا، أي إلى وقف لإطلاق النَّار يؤدي إلى مفاوضات لتسويةِ الأزمة الأوكرانيَّة. لكن ترامب عاد من ألاسكا إلى واشنطن وهو يتحدث عن صفقة شاملة بَيْنَ روسيا وأوكرانيا حتَّى دُونَ وقف لإطلاق النَّار. وفي لقائه مع الرئيس الأوكراني والقادة الأوروبيين في البيت الأبيض بعد القمَّة مع بوتين تحدَّث ترامب عن أنَّه لم يهدف إلى وقف لإطلاق النَّار، وإنَّما إلى تحقيق سلام بَيْنَ روسيا وأوكرانيا.

على الفور خرجت شبكت «أم أس أن بي سي» بتقرير جمعت فيه كافَّة التصريحات السابقة الَّتي تحدَّث فيها ترامب عن وقف إطلاق النَّار في أوكرانيا وتهديداته وعقوباته على موسكو إن لم يستجب بوتين لدعوة وقف إطلاق النَّار. لكن ادعاء ترامب أنَّه لم يكُنْ مستهدفًا وقف إطلاق النَّار إنَّما اتفاق سلام لم يكُنِ المغالطة الوحيدة الَّتي ذكرها في لقائه مع قادة دول أوروبا في البيت الأبيض. بل تفاخر الرئيس الأميركي بأنَّه لا يفعل سوى تحقيق اتفاقيَّات السلام وأنَّه «أوقف ست حروب حَوْلَ العالم منذُ تولِّيه الرئاسة مطلع هذا العام. مع أنَّه في الواقع لم يوقفْ أيَّ حرب ولا حقَّق أيَّ سلام، حسب ما ذكرته منافذ إعلاميَّة سارعت لتحقيق ادعاء وقف الحروب هذا، مِنْها صحيفة «الجارديان» البريطانيَّة. فقَدِ ادَّعى الرئيس وإدارته أنَّهم أوقفوا الحرب بَيْنَ «إسرائيل» وإيران، وأحلوا السلام بَيْنَ الكونجو الديموقراطيَّة ورواندا، وبَيْنَ كمبوديا وتايلاند، وبَيْنَ الهند وباكستان، وبَيْنَ صربيا وكوسوفو، وبَيْنَ مصر وإثيوبيا!

في مايو الماضي اندلعت اشتباكات وهجمات جويَّة عَبْرَ الحدود بَيْنَ الهند وباكستان، توقفتْ بعد أيَّام دُونَ أيِّ اتفاق سلام بَيْنَ البلديْنِ. وسارع الرئيس ترامب وقتها للإعلان عن أنَّ «مفاوضات مضنية توسطت فيها أميركا أوقفت القتال» بَيْنَ البلدين. لكن الهند أعلنت صراحة أنَّه لم يكُنْ هناك أيّ دَوْر للولايات المتحدة في وقف إطلاق النَّار بَيْنَها وبَيْنَ باكستان. ولعلَّ ذلك هو ما أثار حفيظة ترامب ليستهدف الهند تحديدًا بزيادات هائلة في التعريفة الجمركيَّة على صادراتها وفرض عقوبات عَلَيْها. ومع أنَّ التبرير الرسمي وتحليلات البعض أنَّ واشنطن استهدفت الهند لإبعادها عن تقوية علاقتها مع روسيا، فانتهى الأمر بدفع الهند نَحْوَ إصلاح علاقتها بالصين، إلَّا أنَّ تلك تفسيرات لا تأخذ في الاعتبار أنَّ أغلب تصرفات ترامب هي ردود انفعاليَّة على أُمور شخصيَّة. أمَّا ما تحدَّث عَنْه ترامب من تحقيق السلام بَيْنَ الكونجو الديموقراطيَّة ورواندا فلا تعكسه التطورات على الأرض؛ إذ لا يزال المتمردون في الكونجو الَّذين تدعمهم رواندا يشنون هجمات تضرب استقرار البلاد. ولم يلتزم المتمردون بالحضور إلى العاصمة القطريَّة الدوحة قبل أيَّام لتوقيع اتفاق مع حكومة الكونجو الديموقراطيَّة. أمَّا في حالة إيران و»إسرائيل»، فقد شاركت الولايات المتحدة في القصف باستهداف مواقع نوويَّة وعسكريَّة إيرانيَّة بطائراتها بعد أيَّام من القصف «الإسرائيلي» لأهداف إيرانيَّة ورد إيران بقصف أهداف عسكريَّة واستراتيجيَّة «إسرائيليَّة». وإثر القصف الأميركي حدَث وقف إطلاق النَّار دُونَ أيِّ اتفاق أو أُطر هدنة حتَّى، ناهيك عن «تحقيق السلام» الوهمي الَّذي يتحدث عَنْه الرئيس الأميركي.

أمَّا بالنسبة لصربيا وكوسوفو فقد نفت صربيا تمامًا أنَّها كانت تخطط لأيِّ حرب مع كوسوفو لكن ذلك لم يمنع ترامب من نسبة الفضل إلى نفسه في وقف الحرب بَيْنَهما. والأكثر غرابة هو ذكر ترامب لتحقيقه سلامًا بَيْنَ مصر وإثيوبيا؛ إذ إنَّ البلدين لم يتوصلا إلى أيِّ اتفاق بشنِّ مياه نهر النيل بعد بناء إثيوبيا سدًّا كبيرًا يحرم مصر والسودان من حصَّتهما في مياه النَّهر. معروف أنَّ الرئيس ترامب يريد بأيِّ شكل أن يمنح جائزة نوبل للسلام، وبالتالي هو كمن يريد أن يقدِّم مسوّغات الفوز بالجائزة بادعاء أنَّه رجُل يوقف الحروب ويُحقِّق السلام، حتَّى لو لم يكُنْ له دَوْر في أي من تلك الصراعات الَّتي لم تنتهِ وفي أحسن الأحوال توقف اشتعالها ضمن هدنة أو وقف لإطلاق النَّار. ولأنَّ الجائزة تمنحها الأكاديميَّة الملكيَّة السويديَّة للعلوم، أي أنَّ مقر الجائزة في أوروبا، فالرئيس ترامب يريد ربط اسمه بأيِّ اتفاق يتحقق في أوكرانيا باعتباره الرجل الَّذي أبعد خطر روسيا عن أوروبا. ولا شك أنَّ الرئيس بوتين يدرك ذلك، وأدَّى بالفعل على تلك الرغبة الترامبيَّة في قمَّة ألاسكا مقنعًا نظيره الأميركي بأنَّ اتفاق سلام سيكُونُ أفضل كثيرًا من وقف لإطلاق النَّار أو هدنة. فذلك مسوّغ أهم للفوز بجائزة نوبل. إنَّما لأنَّ الرئيس الأميركي ليس واثقًا تمامًا من إمكانيَّة إنهاء حرب أوكرانيا فهو يعدِّد صفقات سلام وهمي أنجزها. ورهانه على أنَّ تكراره لتلك التصريحات سيجعل من الصَّعب التشكيك في صدقها حتَّى لو كانت غير حقيقيَّة فتأخذها لجنة الجائزة في الاعتبار.

د.أحمد مصطفى أحمد

كاتب صحفي مصري

التعليقات معطلة.